جار التحميل...
تُؤدّي وسائل الإعلام دوراً أساسياً في تشكيل الوعي المجتمعي، وتوجيه الرأي العام في المجتمعات الحديثة؛ إذ لديها القدرة على تحديد الأولويات في أذهان الناس، مُبرِزةً القضايا التي تجذب اهتمامهم وتفكيرهم.
ثمّ إنّ وسائل الإعلام تُوجِّه النقاشات العامَّة المُتعلِّقة بالقضايا المُهمَّة، مُؤثِّرةً تأثيراً كبيراً في كيفية فهم الجمهور لهذه القضايا وتفاعلهم معها؛ فمثلاً، عندما تُركِّز وسائل الإعلام بشِدَّة على قضية بيئية مُعيَّنة؛ كالتغيُّر المُناخي، فإنَّها لا تكتفي بجذب الانتباه فقط، بل تُحفِّز الوعي الجماعي، وتُشجِّع الأفراد على التفكير في حلول جديدة، وتَبنّي مواقف إيجابية تجاه القضية المطروحة.
وهذا التأثير الإعلامي يشمل تشكيل المواقف والاتِّجاهات تجاه القضايا السياسية والاقتصادية أيضاً؛ فمن خلال التغطية المُستمِرّة، والتحليلات العميقة، تتشكَّل لدى أفراد المجتمع رؤية واضحة؛ ممّا يُؤثِّر في عملية صُنع القرار.
في ظلّ العولمة الإعلامية، أصبحت وسائل الإعلام عاملاً رئيساً في إعادة تشكيل مفهوم الهُويَّة؛ فهي تُعرِّض الأفراد لمجموعة واسعة من الثقافات والقِيَم العالمية؛ ممّا يُوسِّع آفاقهم الفكرية والثقافية، وقد يدفع بعضهم إلى إعادة النظر في هُويّاتهم الشخصية والجماعية؛ إذ يجدون أنفسهم مُتأثِّرين بعناصر من ثقافات أخرى غير ثقافتهم الأم.
فعلى سبيل المثال، قد يتأثَّر شابّ عربي بالثقافة الكورية؛ من خلال مشاهدة المسلسلات الكورية، وهذا التأثير قد يظهر في اهتمامه باللغة الكورية، أو تبنّيه بعض العادات الكورية، على الرغم من احتفاظه في الوقت نفسه بجذوره العربية وقِيَمه الأصيلة، والنتيجة مزيج فريد يجمع بين عناصر من الثقافة المحلّية العربية والثقافة العالمية.
ومن جانب آخر، قد يكون هذا التأثير سلبيّاً يُؤدّي إلى فقدان البعض هُويَّتهم الثقافية، ومن ثَمّ تخلّيهم عن بعض العادات والقِيَم المجتمعية.
قادت وسائل الإعلام الحديثة -خاصَّة مِنصّات التواصل الاجتماعي- ثورة في طريقة تواصل الناس؛ فقد غيَّرت مفاهيم الصداقة والعلاقات الاجتماعية، وأوجدت مجتمعات افتراضية جديدة؛ إذ أصبح بإمكان أيّ شخص الآن الحفاظ على علاقات وثيقة بأشخاص لم يسبق أن التقى بهم وجهاً لوجه؛ ممّا وَسَّع دائرة التواصل الاجتماعي بصورة غير مسبوقة.
ويُشار إلى أنّ لهذا التحوُّل تأثيرات عميقة في النسيج الاجتماعي؛ فهو من جهة قد يُعزّز الروابط، ويُتيح فرصاً جديدة لتبادُل الخبرات، ومن جهة أخرى، يُمكن أن يُؤدّي إلى تقليل التفاعُلات المباشرة وجهاً لوجه؛ ممّا يُؤثّر في مهارات التواصل التقليدية، كما يُؤدّي في بعض الحالات إلى جعل العلاقات الإنسانية أكثر سطحية؛ إذ لا يتجاوز التواصل تبادُل الرسائل النصّية والصور.
تلعب وسائل الإعلام دور مِحوَريّ في تشكيل التصوُّرات المجتمعية المُتعلِّقة بالجمال والصحَّة في العصر الحديث؛ إذ تُقدِّم هذه الوسائل في مُحتواها معايير جمالية مُحدَّدة، وتُروِّج لها؛ ممّا يُؤثِّر تأثيراً عميقاً في فهم الناس لمفاهيم الجمال والصحَّة المثالية.
فعلى سبيل المثال، قد تنتشر على وسائل الإعلام صور مُعدَّلة رقمياً للمشاهير والشخصيات المُؤثِّرة؛ ممّا يخلق توقُّعات غير واقعية تتعلَّق بمظهر الجسم النموذجي، وهذه الصور المثالية تُؤثِّر في نظرة الأفراد إلى أجسامهم، وقد تُؤدّي إلى عدم الرضا عن الذات.
ثمَّ إنّ تأثير وسائل الإعلام قد يمتَدّ ليشمل السلوكات الصحِّية والغذائية للأفراد؛ فقد تدفع الصور والرسائل الإعلامية الناس إلى تبنّي أنماط غذائية مُعيَّنة، أو ممارسة رياضات مُحدَّدة؛ سَعياً وراء المظهر المثالي.
وهذا التأثير ذو جانبَين؛ جانب يُشجِّع على تَبنّي نمط حياة صِحِّي؛ بالترويج للتغذية السليمة، وممارسة الرياضة، وجانب آخر قد يُؤدّي إلى آثار سلبيّة، مثل: شُيوع اضطرابات الأكل، والهَوس بفُقدان الوزن بطرائق غير صِحِّية.
لوسائل الإعلام دور كبير في تشكيل السلوك الاستهلاكي للأفراد؛ فمن خلال الإعلانات والتسويق، تُوجِد وسائل الإعلام رغبات جديدة لدى الأفراد، وتُروِّج لأنماط استهلاكية مُعيَّنة؛ إذ قد تدفع حملة إعلانية مُكثَّفة الناسَ إلى شِراء سلعة مُحددة، حتى لو لم تكن هناك حاجة حقيقية إليها، وهذا التأثير يمتَدّ ليشمل تغيير أولويات الإنفاق، وتشكيل مفاهيم النجاح والسعادة المرتبطة بامتلاك سِلَع مُعيَّنة.
وقد يتجاوز هذا التأثير الترويج للمُنتَجات إلى تشكيل قِيَم وتوقُّعات اجتماعية؛ إذ قد تُروّج الإعلانات لنَمط حياة مُعيَّن مُرتبِط باستهلاك مُنتَجات فاخرة؛ ممّا يخلق ضغطاً اجتماعياً للمُواكَبة، ثمَّ إنَّ وسائل التواصل الاجتماعي تؤدّي دوراً متزايداً في هذا المجال؛ إذ يُشارك المُؤثِّرون تجاربهم مع المُنتَجات؛ ممّا يُؤثِّر في قرارات الشراء لدى مُتابِعِيهم.
أصبحت وسائل الإعلام شريكاً فاعلاً في عملية التنشئة الاجتماعية، وبات دورها لا يقِلّ عن دور الأسرة في هذا المجال؛ فالوقت الذي يقضيه الطفل أو الشابّ في استعراض مُحتواها لا يَقِلّ عن الوقت الذي يقضيه مع والِدَيه وأسرته -إن لم يكن أكثر-.
فوظيفة التنشئة الاجتماعية تتكامَل بتكامُل عمل المُؤسَّسات الإعلامية ومُؤسَّسة الأسرة؛ إذ تنقل وسائل الإعلام التراث، والقِيَم، والعادات، والتقاليد، إلى الأجيال الناشئة، وتُسهِم مع الأسرة في التربية الأخلاقية، والنفسية، والوجدانية، والعقلية، إضافة إلى التربية الاجتماعية، والوطنية، والاقتصادية، والدينية.
ومع ذلك، فإنَّ هذا التحوُّل القِيَمي لا يخلو من بعض الآثار السلبية على الأسرة؛ إذ أسهم الإعلام المُعاصِر في إيجاد ثقافة وقِيَم لا تتَّصِل بالضرورة بالبيئة الاجتماعية التي ينتمي إليها الشباب والمُراهقون في واقعهم وإدراكهم، فنتج عنه تصادُمٌ وتصارُعٌ بين مضامين القِيَم التي تُروِّج لها وسائل الإعلام المُعاصِر، والقِيَم التقليدية للأسرة؛ ممّا أدّى إلى إضعاف دور الأسرة في غَرس القِيَم المرغوبة في نفوس أبنائها، ممّا يستدعي ضرورة إيجاد توازن وتكامل بين دور الأسرة ووسائل الإعلام في عملية التنشئة الاجتماعية.
أثَّرت وسائل الإعلام كثيراً في منظومة العلاقات الأُسَرية؛ فمن ناحية، تُؤدّي إلى تقليل التواصل المباشر بين أفراد الأسرة؛ إذ ينشغل كلّ فرد بجهازه الإلكتروني، وهذا الانشغال قد يُؤدّي إلى تأخُّر تطوُّر مهارات الانتباه، والتفكير، واللغة، والمهارات الاجتماعية، خاصَّة عند الأطفال الصِّغار، كما أنَّ الآباء الذين يقضون وقتاً طويلاً في استعراض وسائل الإعلام المختلفة، قد يُفوِّتون فرصاً ثمينة للتفاعل مع أطفالهم.
ومن ناحية أخرى، تُوفِّر وسائل التواصل الاجتماعي طرقاً جديدة للتواصل بين أفراد الأسرة المُتباعِدين جغرافياً؛ ممّا يسمح لهم بالحفاظ على التواصل بغضّ النظر عن أماكن إقامتهم، وفي ظلّ هذا التغيُّر في أنماط التواصل الأُسَرِي، بات من الضروري إيجاد توازن بين الاستفادة من التكنولوجيا، والحفاظ على التواصل الشخصي المُباشِر.