جار التحميل...

mosque
partly-cloudy
°C,
آفة من آفات العصر

ظاهرة التنمر وأسبابها

11 أغسطس 2024 / 1:00 PM
ظاهرة التنمر وأسبابها
download-img
من المؤسف أنّ تأثير التنمر لا ينتهي بانتهاء حادثة التنمر ذاتها، بل قد يمتد إلى المستقبل مُخلِّفاً ندوباً عاطفية وجروحاً نفسية قد يصعب التعافي منها؛ فالشخص الذي يتعرض للتنمر في طفولته أو مراهقته قد يعاني من صعوبات في بناء علاقات صحية مع الآخرين، وقد يكون أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب والقلق في مراحل حياته اللاحقة.

لذلك لا بدَّ من التخلص من هذه الظاهرة الخطيرة، وتُعدّ معرفة الأسباب التي تدفع الأفراد إلى التنمّر الخطوة الأولى لتحقيق هذه الغاية.

ظاهرة التنمر: آفة المجتمعات فاحذرها

التنمر "Bullying" سلوك مُتكرِّر مُتعمَّد يهدف إلى إلحاق الأذى النفسي أو الاجتماعي أو الجسدي بالآخرين، ويتَّخِذ التنمر أشكالاً متعددة، مثل: الإساءة اللفظية؛ من خلال الكلمات الجارحة، أو العنف الجسدي؛ كالضرب، أو التلاعب بالمشاعر، وزعزعة الثقة بالنفس، وقد ظهر في الآونة الأخيرة ما يُعرَف بالتنمر الإلكتروني؛ إذ يستخدم المتنمر وسائل التواصل الرقمية كالهواتف الذكية، والأجهزة اللوحية، والحواسيب؛ للتنمر على الآخرين عبر منصّات التواصل الاجتماعي والرسائل الإلكترونية.

وتتعدد بيئات التنمر لتشمل المدرسة، والمنزل، ومكان العمل؛ إذ يمكن أن يتعرض الفرد للتنمر من قِبَل زملائه، أو أفراد أسرته، أو رؤسائه وزملائه في العمل.


وتترك هذه التجربة المؤلمة آثاراً سلبية عميقة في الصحة النفسية والجسدية لمَن يقعون ضحية للتنمر؛ سواء على المدى القصير، أو البعيد؛ فقد يُعاني الشخص الذي يتعرض للتنمر من مشاعر الحزن، والوحدة، والإحباط، وفقدان الثقة بالنفس، والانسحاب من التفاعلات الاجتماعية، كما قد تظهر لديه العديد من الأعراض الجسدية؛ كاضطرابات النوم، والصداع، وآلام المعدة؛ نتيجة الضغط النفسي المستمر.

لماذا يُمارس بعض الأشخاص التنمُّر؟

تقف خلف ممارسة التنمر مجموعة من الأسباب والدوافع، من بينها ما يأتي:

انخفاض تقدير الذات

يلجأ بعض الأفراد إلى ممارسة التنمر كوسيلة لإخفاء مشاعرهم الحقيقية تجاه أنفسهم، والتي تتَّسم بانخفاض تقدير الذات، وقلة الثقة بالنفس؛ فهم يسعَون جاهدين إلى تحويل الانتباه بعيداً عنهم؛ بتسليط الضوء على غيرهم؛ خوفاً من الكشف عن نقاط ضعفهم وعيوبهم أمام الآخرين، إلّا أنَّ هؤلاء المتنمرين قد يُعانون في خلوتهم من مشاعر قاسية تجاه أنفسهم ومظهرهم.


ولعلَّ أحد أهم الأسباب وراء انخفاض تقدير الذات والثقة بالنفس هو أنَّ المجتمع أحياناً أو البيئة المحيطة بالشخص تُعرِّضه لضغوط هائلة تتعلَّق بالامتثال لمعايير الجمال واللياقة البدنية المثالية، فيقع في فخّ مقارنة نفسه مع الآخرين، ممّا يشعره بالنقص وعدم الرضا عن الذات، وينسى أنَّ لكلِّ شخصٍ جمالاً خاصّاً يُميِّزه عن الآخرين.

وبعض الأشخاص الذين يعانون من انخفاض تقدير الذات قد يشعرون بحاجةٍ مُلِحَّةٍ لإثبات أنفسهم وتعزيز ثقتهم، وقد يتَّخِذون من التنمر سبيلاً لتحقيق هذه الغاية؛ إذ يمنحهم شعوراً زائفاً بالتفوُّق والسيطرة عندما يسخرون من الآخرين، أو ينتقدون شكلهم أو نقاط ضعفهم، وهم بهذا يحاولون بشكل يائس تعويض مشاعر النقص لديهم؛ من خلال إظهار القوة والهيمنة على أولئك الذين يرونهم أضعف منهم، على الرغم من أنَّ الحلّ الحقيقي لتحقيق تقدير الذات يكمن في تقبُّلهم أنفسهم، والتعامل مع المشاعر السلبية بطريقة بَنّاءة.

سلوك مكتسَب من الآخرين

يُعَدّ التنمر سلوكاً مُكتَسَباً شأنه شأن أمور كثيرة؛ فالشخص الذي يتعرَّض للتنمر من إخوته الأكبر أو أقرانه أو أحد والِدَيه قد يُقلِّدهم ظَنّاً منه أنّ هذا السلوك مقبولٌ في التعامل مع الآخرين؛ أي أنَّ غياب القدوة الحسنة في المنزل أو في المدرسة حيث ينخرط البالغون في سلوكات التنمر، يُعطي انطباعاً للطفل بأنَّ هذا النهج مقبول ومُتوقَّع في العلاقات الاجتماعية.


وتزداد احتمالات اكتساب سلوك التنمر في ظلّ ظروف عائلية أو بيئة تعليمية تتغاضى عن هذا السلوك، أو حتى تُعزِّزه بطرق مختلفة؛ فقد يجد تشجيعاً على التنمر بشكل صريح؛ كأن يكافئ الوالدان أو المعلمون الطفل على سلوكه العدواني مُعتقدين خطأً أنّه يعكس قوة شخصيته، أو قدرته على الدفاع عن نفسه، أو قد يجري التعامل مع حوادث التنمر بلا مبالاة وتجاهل، ممّا يوحي ضِمنيّاً للطفل بأنّ هذا السلوك مقبول ولا يستدعي العقاب أو التصحيح.


وبالإضافة إلى ذلك، يزيد غياب التوجيه السليم من الأهل والمعلمين أيضاً من احتمالية اكتساب سلوك التنمر؛ فعندما لا يتلقّى الطفل تعليمات واضحة حول كيفية التعامل مع الآخرين باحترام ولطف، أو لا يكتسب مهارات حلّ النزاعات سلميّاً من أهله ومُحيطه، فقد يلجأ إلى التنمر كوسيلة للتعبير عن إحباطاته أو لتحقيق رغباته.


وتكمن الخطورة في عدم معالجة سلوك التنمر في سن مُبكِّرة؛ سواء من جانب الآباء، أو المعلمين، أو غيرهم من الراشدين المُؤثِّرين في حياة الطفل؛ فعند التغاضي عن هذا السلوك، أو عدم التصدّي له بالشكل المناسب، فإنَّه يترسَّخ في نفسية الطفل، ويصبح جزءاً لا يتجزّأ من طريقة تفاعله مع العالَم من حوله، ويصبح من الصعب تقويم هذه السلوكات في مراحل مُتقدِّمة من العمر.

المعاناة من مشاكل نفسية وعاطفية

تكمن الجذور الحقيقية لسلوك التنمر -في كثير من الأحيان- في المشكلات النفسية أو العاطفية التي يعاني منها الأشخاص الذين يُمارسون هذا السلوك؛ فعوامل نفسية، مثل القلق والاكتئاب وغيرها من الاضطرابات، تؤدّي دوراً مِحوَرِيّاً في دفع الفرد نحو تبنّي سلوكات التنمر تجاه الآخرين؛ إذ يُكافح هؤلاء الأفراد في مواجهة صراعات داخلية وتحدِّيات نفسية لا يستطيعون التعبير عنها بشكل صِحّي، فيلجؤون إلى التنمر كوسيلة للتنفيس عن مشاعرهم السلبية.

والشخص الذي يفتقر إلى الإحساس بالتحكُّم في حياته -وخاصَّةً في بيئته المنزلية- قد يسعى جاهداً إلى بسط سيطرته في مجالات أخرى، ومنها التنمر على الآخرين الأضعف منه، وهذه الحاجة المُلِحَّة للسيطرة غالباً ما تنبع من إحساس عميق بانعدام الأمان والثقة بالنفس، بحيث يكون الفرد عاجزاً عن اتِّخاذ القرارات المهمة في حياته، أو التأثير في مُجرَيات الأمور في أُسرته.

 

كما أنَّ تعرض الفرد للنقد المُفرِط أو الإطراء المُبالَغ فيه من مُحيطه يترك أثراً عميقاً في نفسيَّته وإدراكه لذاته والآخرين؛ فعندما يتعرض الطفل باستمرار لانتقادات لاذعة وتوبيخ مستمر من قِبَل والِدَيه أو المعلمين، فإنَّه يبدأ في تطوير صورة سلبية عن نفسه، وقد يشعر بأنَّه غير كفء، أو أنَّه لا يستحقّ الحب والتقدير.

من ناحية أخرى، قد يخلق الإطراء المُبالَغ فيه توقُّعات غير واقعية لدى الطفل؛ فعند وصفه دائماً بأنَّه مثالي ولا يخطئ، فإنَّه قد يجد صعوبة في مواجهة النقد والتحديات المختلفة في حياته المستقبلية، كما أنّ هذا النوع من الإطراء قد يخلق لديه شعوراً بالتفوق على الآخرين، ممّا يؤدّي به إلى النظر إليهم بازدراء، أو التقليل من قيمتهم.


وفي كلتا الحالتَين؛ سواء بالنقد المُفرط، أو بالإطراء المبالغ فيه، فإنَّ الطفل يفقد الإحساس بقيمته الحقيقية؛ فهو إمّا أن يشعر بأنّه عديم القيمة وغير محبوب، أو أنّه مُتفوِّق على الجميع، وأنّ قيمته تكمن فقط في نجاحاته وإنجازاته، وهذا التشوُّه في إدراك الذات والآخرين قد يدفع الفرد إلى تبنّي سلوكات سلبية؛ كالتنمر، في محاولة لتعويض مشاعر النقص، أو لتأكيد تفوُّقه المزعوم.

سمات شخصية لدى الفرد

ثمَّة عوامل شخصية فِطرية قد تجعل بعض الأفراد أكثر مَيلاً إلى ممارسة التنمر على الآخرين؛ إذ يُوجَد ارتباط وثيق بين التنمر ونوعين من السلوكات العدوانيّة، وهما: السلوكات العدوانية المقصودة؛ وهي نمط سلوكي يتَّسِم بالتخطيط والتدبير، يلجأ فيه الفرد إلى التنمر كوسيلة لتحقيق أهداف محددة؛ كالحصول على مكاسب مادية أو اجتماعية.


أمّا النوع الثاني، فهو السلوكات العدوانية التي تكون ردود أفعال انفعالية تلقائية تنبع من الشعور بالغضب أو الإحباط، وغالباً ما تكون استجابة لتهديد مُتوقَّع أو إساءة من الآخرين، وفي المقابل، يميل الشخص الذي يتَّسِم بسمات شخصية إيجابية؛ كالصدق، والتواضع، عادةً إلى التعامل مع الآخرين باحترام وتقدير، ويُفضِّل حلّ النزاعات بطرق سِلميَّة بعيداً عن العدوان والتنمر.


وليس كلُّ من يمارس التنمر يتمتَّع بالضرورة بشخصية عدوانية أو مُهَيمنة؛ ففي بعض الأحيان، قد يلجأ الأفراد إلى سلوكات التنمر دون إدراك منهم؛ لتأثيرها السلبي في الآخرين، وخاصَّةً إذا اعتقدوا أنّ لديهم أسباباً وجيهة تُبرِّر تصرُّفاتهم.


فعلى سبيل المثال، قد يعتقد البعض أنّ المزاح الجارح أو التعليقات الساخرة مُجرَّد نوع من الدعابة دون إدراك مشاعر الألم التي قد يسبِّبها للطرف الآخر، أو قد يُبرِّر المتنمر سلوكه بأنّه رد فعل طبيعي على استفزاز أو إساءة الآخرين له مُتجاهِلاً حقيقة أنَّ التنمر ليس الحلّ المناسب للتعامل مع الخلافات.


وفي الختام، يُنصَح بالنظر إلى المتنمِّر بعين الرحمة والتعاطف؛ فالتصدّي لظاهرة التنمر يتطلّب فهماً عميقاً للدوافع النفسية والاجتماعية الكامنة وراء هذا السلوك، وتقديم الدعم والإرشاد اللازِمَين لمساعدته على تجاوز تحدِّياته الداخلية، وتطوير مهارات التواصل الإيجابي، والتعاطف مع الآخرين؛ فمن خلال معالجة الجذور العميقة للمشكلة، وتوفير بيئة آمنة وداعمة، يمكن التخلص من التنمر، وبناء مجتمع يقبل الاختلاف، ويحتضن الجميع بغضّ النظر عن خلفياتهم وتحدِّياتهم.

 

المراجع
[1] patient.info, Bullying
[2] www.healthdirect.gov.au, Bullying
[3] ditchthelabel.org, Why Do People Bully? The Scientific Reasons
[4] healthline.com, Exploring the Risk Factors and Reasons for Bullying
[5] betterhelp.com, The Top Reasons Why People Bully

August 11, 2024 / 1:00 PM

أخبار ذات صلة

Rotate For an optimal experience, please
rotate your device to portrait mode.