جار التحميل...

°C,

مشروع التراكيب النحوية ودلالتها في القرآن الكريم "الجزء الثاني"

لقد ذكرتُ في المقال السابق أنّ مشروع التراكيب النحوية ودلالتها في القرآن الكريم هو أحد المناهج الحديثة التي تستعين بالنحو للبحث عن دلالات الخطاب القرآني، والذي يصنّف ضمن باب التفسير اللغوي للقرآن الكريم، ولأجل ذلك وجدت أن أخوض في الحديث عن موضوع التفسير اللغوي، وأهم الكتب التي قامت على المنهج نفسه، وطريقة عمل أصحابها في تلك التفاسير.
إنّ ارتباطنا بالمفسّرين ارتباط بذلك الكتاب العظيم (القرآن الكريم) الذي تكفّل الله بحفظه وأُنزِل على سيّد الخلق سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي تعلّق ذواتنا بتلك التفاسير التي خلّدها التاريخ تعلّق بكتاب الله؛ تفسيراً وبحثاً في مفرداته وتراكيبه ودلالاته التي نتوق لفهمها حتى نفهم كلام ربّنا مُنزِل الكتاب.

وإنّ لحظة قراءتك تفسير كلّ آية من آيات كتاب الله تجعلك تحلّق في عوالم كلّ مفسّر كتب عنها، وتحسّ وأنت تقرأ ذلك التفسير أنّ ذلك المفسّر كتبه خالصاً لوجه الله سبحانه وتعالى، وتعيشه أنت لتحلّق في فضاءات تلك الآية، ويكون لك منها باب تصنع منه بدايتك.

لقد ارتبطت أسماء كثيرة بكتاب الله الجليل، وصنع لها التاريخ مكانها الخاص في عالم التفسير عامة، والتفسير اللغوي خاصة، وسأتحدّث في هذا المقال عن أبرز التفاسير التي تعلّقت بهذا النوع من التفسير، هو كتاب (الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل) لمؤلّفه جار الله أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد، الزمخشري الخوارزمي النحوي، لقّب بالخوارزمي لأنه ولد في منطقة خوارزم في خراسان، وبالزمخشري لأنه ولد في قرية (زمخشر) في إقليم خوارزم، وبجار الله لأنه جاور في مكة المكرمة البيت الحرام سنوات عديدة، ولد في رجب سنة 467 ه، وتوفي سنة 538 هـ، ودفن بجرجانية في خوارزم.

والحديث عن الزمخشري حديث ذو شجون، لا سيما أني قضيت جانباً من علاقتي بقضية الكتابة عن سورة من كتاب الله المتحدّى بها الخلق، وأنا أحاول فك شيفرات هذا المفسّر الفذ، محاولة إيجاد باب لفقه لغته ومنطقه. 

وعلى الرغم ممّا أخذ الكتاب من الوقت للقراءة، إلا أنه لا يزال بحاجة لقراءة أخرى بل قراءات، إذ إنك في كلّ مرة تعود فيها للكتاب بحثًا عن تفسير آية أو تركيب نحوي، تجعلك تكتشف شيئًا جديدًا غاب عنك قبلاً.

يسمح لنا تفسير الكشّاف أن نخوض تجربة فريدة مع أكثر العقول ذكاء، -ويحقّ للمسلم أن يفتخر بها- والتي اصطفاها الله بالكتابة عن قرآنه المجيد، لن أستطيع إنصاف الكتاب علميًّا في كلمات، ولكني سأحاول إنصافه بجعله مرحلة مهمّة من المراحل التي يجب أن يمرّ بها كلّ من اختار التعامل مع كتاب الله لفقهه وفهم معانيه، لأنه يرتقي بالعقل كما يمدّك بالأدوات اللازمة التي يحتاجها كلّ محب لكتاب الله، وباحث فيه عن معنى الكلمة وتركيباتها ودلالاتها المختلفة.

وإنّ العلماء والباحثين في القرآن الكريم من القدماء والمحدثين يجعلونه أكثر مصادرهم في بحوثهم لدرايتهم بقيمة هذا المصنّف، لا سيما أنّ الزمخشري لم يضعه ليكشف به عن المعاني الظاهرة، وإنما المعاني البعيدة، والحقائق الغامضة، ويظهر ذلك جليًّا من العنوان الذي وضعه له.

وليس عجيبًا قيامه بهذا العمل، والعنوان مفتاح يدل على ما في كل كتاب، حيث قال عنه الذهبي في كتابه (التفسير والمفسرون) بأنه "أول كتاب في التفسير كشف لنا على سر بلاغة القرآن وأبان لنا وجوه إعجازه، وأوضح لنا عن دقة المعنى الذي يفهم من التركيب اللفظي، كل هذا في قالب أدبي رائع، وصوغ إنشائي بديع، لا يتفق لغير الزمخشري إمام اللغة وسلطان المفسرين". وللكتاب قيمته من حيث إنه لا يمكن لباحث في كتاب الله أن يستغني عنه، أو ألاّ يجعله مصدرًا من المصادر الأساسية في فهمه لكلام الله.

فهو من التفاسير المهمة التي احتفظ بها لنا التاريخ، و(الزمخشري) من المفسرين الذين خدموا كتاب الله من خلال ما قدّمه من عمل دؤوب، جعله مرجعًا علميًّا مهمًّا، وأثرًا يستحق الذكر والثناء، إذ من جميل العمل أن يكون لكلّ منّا بصمته التي يضعها على صفحات التاريخ الذي لا ينسى.
 
November 12, 2020 / 10:39 AM

مواضيع ذات صلة

Rotate For an optimal experience, please
rotate your device to portrait mode.