جار التحميل...
"هلا بالطَّشْ والرَّشْ" ليست عبارة تتردد على ألسنة الأمهات والجدات في صباح العيد فقط، بل هي نشيدُ فرحٍ ، ونداءُ حفاوة، تنبض بروح المجتمع وتُفصِح عن أرقى معاني الكرم والمحبة التي حملتها القيم الإسلامية منذ بزوغ فجرها.
في معظم البيوت تُطلق هذه العبارة "هلا بالطَّشْ والرَّشْ ..."، فيزهر في القلب شعور بالانتماء والدفء وكأن الكلمات لا تُقال بل تُسكب كما يُسكب الطِيب في المجالس، وكأنها تحلّ مكان الورد عند مداخل البيت، وتسبق القهوة والتمر، وتفتح أبواب القلوب قبل أبواب البيوت.
فـ "الطَّشْ والرَّشْ"، في السياق الشعبي لهما دلالة رمزية على الفرح والاحتفال بقدوم من نُحِب، فـ "الطَّشْ" هو المطر الكثير الذي ينزل على الأرض فنفرح بنزوله، ومثله العِطر عندما يُسكب على الضيف عند مجيئه، وهو كناية عن الكرم والجود، و"الرَّشْ" يُقصد به رشة المطر الخفيفة "النفاف" ومنه جاء نثر الطيب أو حتى النقود والحلوى وباللهجة الشعبية يسمى "النثور"، وكلها من مظاهر الفرح والاستقبال، وفيها ما يشير إلى التوسعة والبذل والسخاء في سبيل إسعاد الضيف.
وفي الإسلام، استقبال الضيف ليس مجرد عادة بل عبادة، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه"، وما عبارة "هلا بالطش والرش" إلا ترجمة حية لهذا التوجيه النبوي، تنبعث من عمق التقاليد وتتشبع بروح الشريعة.
والعيد في الإسلام ليس فقط يوماً لتبادل التهاني ولبس الملابس الجديدة، بل هو موسم للمغفرة، وصلة الأرحام، وتطهير القلوب، فعندما نستقبل الضيف بهذه العبارة، فإننا نُعلن التزامنا بهذه القيم، بل نُشعره أنه من أهل البيت، له في القلب مقام، وفي المائدة نصيب، وفي العيد فرحة لا تكتمل إلا به، فالكرم: تتجلى في "الطش"، أي في البذل والسخاء، سواء كان طعاماً أو مشاعر طيبة، والترحاب: تظهر في الرش، في نثر الحلوى أو الطيب أو كلمات الحب، وهي من صفات المؤمنين الذين قال الله تعالى عنهم: (( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)) ]الحشر: 9[.
العيد هو ذلك (الفرح المشروع) فسحة للفرح النظيف، الذي يربط الدنيا بالآخرة، فشعار المسلم في العيد السعيد: أفرح اليوم بالعيد طاعةً.. لا طيشاً، وأُكرِم الضيف امتثالاً.. لا رياءً.
وفي مجتمعاتنا، لا تقتصر عبارة "هلا بالطش والرش" على العيد فقط، بل تُقال في كل مناسبة سعيدة، وهي رابطة عاطفية بين الأجيال، تنقل الأبناء من مقعد الضيف إلى موقع المُضِيف، وتُعلّمه أنَّ الكرم لا يُدرَّس بل يُعاش، وأن القيم لا تُحَفَّظ بل تُمارس، في ترديدها نُحيي ثقافة الأصالة، ونُوقظ في القلوب الحنين لبيوت الآباء والأجداد، حيث كانت الرائحة مزيجاً من البخور والطيب وكعك العيد، وكانت العبارات صادقة، تنبع من أرواح لم تعرف الزيف.
ختاماً: "هلا بالطَّشْ والرَّشْ.. وماي الوَرْد بَلَغْرَشْ" هي دعوة عامة للحب والكرم، تُعيد للعيد دِفئه، وللضيافة معناها، وتُحيي فينا ما اندثر من حُسن الاستقبال ومكارم الأخلاق، فلنحملها مَعْناً، لا مجرد كلمة، وسلوكاً يُترجم قيم الإسلام، ومشاعر تُعبّر عن هوية مجتمعنا الأصيل، الذي يُكرم الضيف ويُعَظِّمُ العيد ويحتفل بالحياة بما يرضي الله ويُسعد الخَلق.
وكل عام وأنتم بالكرم تفيضون، وبالفرح تُضيئون، وبلسان المحبة ترددون: "هلا بالطش والرش... وعيدكم مبارك وعساكم من العايدين".