وبينما كان يُكمل كلامه، قاطعنا رجلٌ آسيويٌّ وقال بلهجةٍ بسيطة: “موعد الدكتور حان”، ودفع الكرسي ليأخذه.
وفي وقت انتظاري لموعدي، أبحرتُ في حياتي، لأن حياة هذا الرجل التسعيني تشبهنا جميعاً، فقد وُلد وكبر ودرس وعمل وتزوج وأنجب، مع فارق التفاصيل، لكنه يرويها وكأنها ساعات وليست سنين. ما أقصر الدنيا ومراحلها! نغوص في بحارها، والشاطئ واحد.. الجميع يعود إلى المصير نفسه.
وبينما أتمتم “الحمد لله”، خرج الرجل من عند الدكتور، فقلت له: "أبشر؟"، فقال لي مبتسماً تلك الابتسامة التي تحمل في ثناياها كل شجون الحياة: "راح الكثير وما بقي إلا القليل."
وفي الطرقات كان يُودّع هذا وذاك، ويُلوّح بيده وكأنه الوداع الأخير.
نعم.. لخصّ لنا الدنيا منذ وُلد حتى الوداع الأخير.
كانت يده المرفوعة تُلوّح وكأنها تُودّع الحياة نفسها، كل تحية وداع كانت تقطر حزناً شفيفاً، وكل ابتسامة تحمل في طيّاتها ذكريات عمرٍ مديد. كان يغادرنا رويداً رويداً، وكأنه يهمس للوجود: "شكراً لك أيها العمر.. لقد كانت رحلة تستحق العناء".
نعم.. من المهد إلى اللحد، من أول نفسٍ إلى الوداع الأخير.