في زحمة الحياة الإدارية وضجيج المعاملات والأختام، يختفي أحياناً صوت القلب الإنساني خلف جدران الإجراءات، وتذوب الرحمة في دهاليز القوانين، حتى يغدو المتعامل رقماً متجمداً في سجلّ الــ (QR) أو اسماً مُدرجاً في كشوفاتٍ تنتظر الرحمة لترى نور الاستحقاق.
وبينما يظن بعض أصحاب القرار أنّ العدالة والاستحقاق لا يتحققان إلا بجمود النصوص وتطبيق اللوائح بحذافيرها، تأتي كلمات صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، لتعيد التوازن بين العقل والوجدان، إذ قال سموه: " تحسّسوا الرحمة وأنتم تُطبّقون القانون".
فهذه عبارة قصيرة تعبر عن ألف معنى، فتهزّ الضمير قبل أن تطرق العقل، وتخاطب إنسانية الموظف قبل مسؤوليته الإدارية، إنها ليست توجيهاً عابراً، بل منهج حياةٍ ورسالة ضميرٍ لكل من وُكّل إليه شيء من أمور الناس:( اجعلوا القانون جسراً يوصِل الناس إلى حقوقهم، لا سيفاً يُبعدهم عنها).
ولقد علّمنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، أن الرحمة ليست ضعفاً، بل هي قوّة الإيمان، فقال عليه الصلاة والسلام: " الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" (رواه الترمذي)، وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: " من لا يَرحَمْ لا يُرحم" (رواه البخاري).
ومن سيرة العظماء نتعلّم؛ فكان عمر بن عبدالعزيز رحمه الله يقول لأحد عُمّاله: " إذا عُرضت لك حاجة الناس، فانظر أضعفهم، فإنك إن أنصفت الضعيف لم يجرؤ القويّ" هذا هو الاستحقاق الذي يستمدّ قوته من الرحمة لا من القسوة؛ فالعدالة ترى الإنسان قبل الملف، وتُقدّر الحال قبل التوقيع، فهذه كلماتٌ من نور تصلح أن تُعلّق في كل إدارةٍ ومؤسسة، فتُذكّر الموظف بأن الابتسامة قد تفتح باباً من الفرج، والكلمة الطيبة قد تُغيّر مسار حياة.
إنّ تطبيق القانون واجب، ولكن تحسّس الرحمة أثناء تطبيقه فضيلة، فالقانون بلا رحمة آلةٌ صمّاء، والرحمة بلا قانون عاطفةٌ عمياء، وبينهما تتجلّى الإنسانية الحقّة التي جاء بها ديننا الحنيف.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من نفّس عن مؤمن كربةً من كرب الدنيا، نفّس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة" (رواه مسلم)، فكم من معاملةٍ يمكن أن تُنجز بتفهّمٍ بسيط لحالة صاحبها، وكم من توقيعٍ متّزن قد يكون جسرَ أملٍ لإنسانٍ أرهقه طول الانتظار، فأنتم يا من وُكلت إليكم مسؤولية الناس لا تمارسون عملاً إدارياً فحسب، بل تؤدّون رسالةً إنسانية عظيمة.
فكونوا كما أرادكم صاحب السمو حاكم الشارقة، رحماءَ تُطبّقون العدل، وعُدولاً تتحسّسون الرحمة؛ فليس في الرحمة ضعف، بل فيها قوّة الإدارة الواعية، التي ترى الإنسان قبل النص.
ويقول عروة بن الزبير رضي الله عنه لتلاميذه: " انظروا في وجوه الناس قبل أوراقهم، فإن المظلوم لا يُخطئه الحزن، والرحيم لا يخطئه النظر"، هكذا كانت إدارة أسلافنا الأوائل؛ إدارةً تسكنها الرحمة، وتنبض بالإنصاف، وتجمع بين قوة الإدارة المؤسسية وإنسانية القرار.
وما أجمل أن يكون الموظف باب أملٍ يُفتح، لا عقبةً تُغلق، وما أحوج مؤسساتنا اليوم إلى أن تُعيد للرحمة مكانتها في بعض القرارات الإدارية، وأن يُصبح قول سموه: " تحسّسوا الرحمة وأنتم تطبّقون القانون"، شعاراً عملياً تتزين فيه أروقة بعض المؤسسات.