جار التحميل...
ومن طبيعة الحياة أن تفرض علينا أحياناً من الظروف ما يعجز الإنسان أمامه مهما كانت رغبته في الوفاء بما التزم به صادقة، فقد تقف العوائق دون تحقيق المراد، وتتعارض الإرادة مع الواقع، فيجد الإنسان نفسه بين حرصه على أداء الأمانة، وبين ما لا يملك له دفعاً من أسبابٍ أو موانع، وهنا يُختبر المعنى الحقيقي للأمانة، إذ تتجلى في الإخلاص والنية الصافية، لا في القدرة وحدها على الإنجاز.
إن الأمانة في جوهرها ليست حكراً على من أكمل ما بدأ، بل هي صفة تلازم من أخلص النية وسعى بما استطاع، ثم حال بينه وبين غايته أمرٌ خارج عن إرادته، فالإخفاق لا يُبطل الصدق، والعجز لا ينفي الأمانة، ما دامت النفس مؤمنة بالمسؤولية، حريصة على أدائها بقدر ما تُطيق.
ولذلك، فإن تقدير الأمانة لا يكون بالنظر إلى النتيجة وحدها، بل بتقدير الجهد والموقف والنية، فكم من إنسانٍ لم يُنجز ما أراد، لكنه بقي أميناً في سعيه، صادقاً في تعامله، نزيهاً في مقصده، وكم من آخر أتمّ عمله ظاهراً، لكنه فقد روح الأمانة حين خلت نيته من الإخلاص.
إن التعامل بالأمانة يعكس رقيّ النفس قبل كفاءة الأداء، ويُظهر عمق المسؤولية قبل اكتمال العمل، وحين تتقاطع الإرادة مع العجز، أو تسبق النية الظروف، يبقى الصدق في السعي هو الصورة الأصفى للأمانة التي لا تتأثر بما تعترضها من عراقيل.
وهكذا تبقى الأمانة مبدأً ثابتاً لا تهزه المتغيرات، وقيمةً سامية تُبنى عليها الثقة وتُحفظ بها الحقوق، فهي التزام أخلاقي قبل أن تكون واجباً إدارياً، وهي ميزان يُقاس به ضمير الإنسان قبل قدرته على الإنجاز، فمن تمسك بها نيةً وسلوكاً، فقد أدى حقها حتى وإن حالت الظروف دون تمامها.