جار التحميل...
فقبل سنوات، كنت أعمل في إحدى الجهات الخدمية، وكان معظم من يدخل علينا يعاني من مشكلة ما؛ طلب لم يكتمل، وإجراء غير واضح، ومنتج لا يعمل، أو استفسار يتكرر عشرات المرات.
وفي العادة، كنا نحيلهم إلى المكتب المختص، لكنني كنت أرى في هذه المواقف فرصة للتعلم، فقررت مساعدتهم بنفسي، والبحث معهم عن حلول مباشرة، بدلاً من الاكتفاء بالتوجيه.
ومع الوقت، بدأت ألاحظ أنني أصبحت أكثر إلماماً بطبيعة تلك المشكلات، بل أستطيع أحياناً توقّعها قبل أن تُقال.
لكنّ المفاجأة الحقيقية لم تأتِ من موقعي كموظف، بل حين أصبحت أنا المتعامل.
وحين احتجت لاحقاً إلى خوض الخدمات نفسها كمتعامل، كنت واثقاً أنني لن أقع في الأخطاء التي واجهها الآخرون، وبالفعل، تمكنت من تجاوز كثير منها، لكنني فوجئت بأنني بدأت أتعثر في مشكلات جديدة تماماً، ليست تلك السطحية التي اشتكى منها الناس من قبل.
كانت هذه التحديات مختلفة، وعميقة، وتتطلب فهماً أوسع من مجرد معرفة الإجراءات، ومن هنا بدأ يتبلور في ذهني مفهوماً بسيطاً، لكنه غيّر نظرتي للحياة والعمل وإدارة التغيير:
إنَّ التحدي يأتي بعدة مستويات، وكل مستوى يحمل فرصة مختلفة للنضج والتطور.
هو ما نواجهه غالباً في البداية: كعقبة واضحة، وإجراء غير مفهوم، ونظام يبدو معقداً.
فكثير من الناس يتوقفون هنا وينسحبون، ويظنون أن الحل خارج متناولهم، وأنً هناك عيباً في النظام، أو في قدراتهم، لكن الحقيقة؟ هذا المستوى لا يتطلب خبرة، بل يتطلب فضولاً بسيطاً، واستعداداً للتعلّم.
هذا المستوى لا تواجهه إلا إذا قررت أن تستمر، وأن تجرّب، وتفهم، وتفكّر.
فتبدأ بالأسئلة التي لا تجد لها إجابات جاهزة، وحينها تظهر التحديات التي تحتاج أن تخطئ فيها مرة واثنتين، وتتمرس فيها حتى تتقنها، فهذا هو مستوى الصبر والمثابرة، حيث لا تتعلم من أخطاء الآخرين فقط، بل من أخطائك أنت.
في هذا المستوى، لا تصبح خبيراً بالنظام فقط، بل خبيراً بالمجتمع كذلك، فتفهم كيف تُبنى القرارات، وكيف تتحرك العلاقات والمصالح، وكيف تتفاعل القوى الناعمة من حولك، ولماذا تنجح بعض الطرق وتفشل الأخرى؟
فهنا، تكتشف أن المهارة لا تكفي، بل تحتاج إلى البصيرة والنضج في فهم السياق، والبيئة، والفرص المخفية في تفاصيل الحياة.
ومع الوقت، بدأت ألاحظ أمراً آخر: هناك من يتعاملون مع التحديات بمرونة مذهلة، ولديهم قدرة لافتة على الملاحة داخل الأنظمة، ويجدون طرقاً للحل لا تخطر على البال، ويحققون ما يريدون بثقة وسهولة.
هل هم أذكى؟
ليس بالضرورة، لكن ربما لديهم ثقافة أوسع في التجريب، وجرأة على ارتكاب الخطأ، والتعلم منه، وقد تكون الحاجة الملحة هي الدافع الرئيسي لهم للمحاولة مراراً وتكراراً
وهنا يأتي السؤال الجوهري:
هل نحن نسمح لأنفسنا بالوصول إلى المستوى الثالث؟
وهل نُعطي لأنفسنا حق التجريب، والتعثر، والتعلم من داخل النظام، لا من خارجه؟
لسنا بحاجة إلى حلول معقدة، ما نحتاج إليه هو:
•وعي مجتمعي جديد يرى الخطأ خطوة، وليست نهاية.
•ثقافة أو تربية تشجع على الاكتشاف والتجريب، وليس على التحذير منها.
•بيئة عمل تسمح بالتعلّم الحقيقي، ليس فقط الإنجاز السريع.
•تواصل حقيقي مع من يعيشون حولنا من ثقافات وخبرات مختلفة.
•كسر حاجز الخوف من الفشل، والخروج من منطقة الراحة.
•حين نرى كيف يتعامل الآخرون مع التحديات بمهارة، يجب ألا نغار، بل أن نتعلم، فهم لا يمتلكون أسراراً، بل فقط خاضوا أكثر، وجربوا أكثر، وسمحوا لأنفسهم بالفهم بدل الخوف.
كل مستوى نخوضه يفتح أمامنا آفاقاً وفرصاً جديدة للفهم والنمو، فليس المطلوب أن نكون خبراء منذ البداية، بل أن نمنح لأنفسنا الحق في أن نبدأ، وأن نُخطئ، وأن نتأمل، ثم ننهض بفهم أعمق من ذي قبل.
إن الطريق يبدأ بخطوة واحدة، لكنها ليست إلى الأمام فقط، بل إلى الداخل أيضاً.