أسهمت المرأة المسلمة في بناء أُسر عرفت حدود الله، ووقفت على تعاليمه، إذ يذخر التاريخ الإسلامي بنماذج مشرفة وأمهات رائعات استطعن أن يضعن أثرهن ويقمن بدور فعال في صناعة الرجال، وبناء العقول الناصعة، وهناك الكثير من الشخصيات العظيمة التي حفرت أسماءها عبر العصور، وتركت علامات فارقة في مجالات مختلفة.
الإمام أبو حنيفة النعمان (رحمه الله)
نبدأ هذه السلسلة بفقيه الأمة، الإمام أبي حنيفة النعمان-رحمه الله عالم العراق، فقد نجحت المرأة المسلمة بفصاحتها وبلاغتها وفقهها في تغيير مساره العلمي من علم الكلام إلى الفقه، بسبب سؤال امرأة؛ لذا قال:" خدعتني امرأة وفقهتني امرأة وزهدتني امرأة".
أما الأولى قال: كنت مجتازاً فأشارت إلي امرأة، إلى شيء مطروح في الطريق فتوهمت أنها خرساء، وأن الشيء لها فلما رفعته إليها قالت: احفظه حتى تسلمه لصاحبه.
الثانية: سألتني امرأة عن مسألة في الحيض، فلم أعرفها، فقالت قولاً: تعلمت الفقه من أجله. - كما اتضح من كلام الإمام-.
والثالثة: مررت ببعض الطرقات، فقالت امرأة: "هذا الذي يصلي الفجر بوضوء العشاء فتعمدت ذلك حتى صار دأبي ".
أما عن أثر والدته فقد كان –رحمه الله - باراً بها، قال عنها:" إن أمه- رحمها الله تعالى -كانت تأمره أن يذهب بها إلى حلقة عمر بن ذر - من رجال الحديث بالكوفة- حتى تسأله عن بعض ما أشكل عليها، يقول أبو يوسف: رأيت أبا حنيفة يحمل أمه على حمار إلى مجلس عمر بن ذر، كراهية أن يرد على الأم أمرها"، رحم الله الإمام أبا حنيفة رحمة واسعة، ومناقبه أكثر من أن تحصى.
والدة الإمام الأوزاعي رحمها الله
الإمام الأوزاعي: هو إمام الدَّيار الشامية في الفقه والزهد، كان (رحمه الله) من أوائل المصنفين، الذين جمعوا بين العبادة والعلم والقول بالحق.
ولد –رحمه الله- في بعلبك سنة (88ه)، ومات والده وهو صغير، فتولت والدته تربيته ورعايته، وانتقلت به من الكَرْكُ- قرية ببقاع لبنان- التي نشأ فيها إلى بيروت؛ بسبب ضيق العيش وقلة مصادر الرزق.
ومن حسن رعايتها وتربيتها له أنه أصبح مضرباً للمثل في حسن الخلق والسمت، حتى قال العباس بن الوليد- كما ذكر الذهبي في” سير أعلام النبلاء":" ما رأيت أبي يتعجب من شيء في الدنيا تعجبه من الأوزاعي، فكان يقول: سبحانك تفعل ما تشاء ،كان الأوزاعي يتيماً فقيراً في حجر أمه تنقله من بلد إلى بلد، وقد جرى حكمك فيه أن بلغته حيث رأيته، يا بني عجزت الملوك أن تؤدب أنفسها، وأولادها أدب الأوزاعي في نفسه، ما سمعت منه كلمة قط فاضلة إلا احتاج مستمعها إلى إثباتها عنه، ولا رأيته ضاحكاً قط حتى يقهقه، ولقد كان إذا أخذ في ذكر المعاد أقول في نفسي: أترى في المجلس قلب لم يبك؟.
وبلغ الإمام الأوزاعي برعاية والدته، وبصبرها على التنقل به من مكان إلى آخر رغم حاجتها وفقرها إلى العلماء ليصبح هذا الصغير اليافع عالم أهل الشام، بل إمام أهل زمانه، ويستمر ذكره إلى يومنا هذا، وليرصد لنا التاريخ -وإن جهلنا اسمها- أم صالحة عالمة واعية، فاهمة ومدركة لأهمية العلم، وفضله، فتصبح رحمها الله بصنيعها هذا قدوة صالحة لكل امرأة تلد ابناً فتجعل منه عالماً، وللحديث بقية..