جار التحميل...
وقد يظنّ البعض أنَّ تأثير العولمة يرتبط بالاقتصاد فقط، إلّا أنَّ هذا غير دقيق؛ إذ يمتَدّ تأثيرها إلى العديد من الجوانب، فالعولمة لا تنقل السِّلَع والخدمات فقط، وإنَّما تنقل أيضاً الثقافة، والسِّياسات، ووجهات النَّظَر، واللُّغات، والأفكار، والمُمارَسات اليوميَّة، وأنماط الحياة المختلفة.
وبالرغم من الفوائد المَلموسة للعَولَمة، والتي عَزَّزت فُرَص التطوُّر والمُشارَكة بين الدُّوَل، إلّا أنَّها جلبت العديد من التحدِّيات، وخاصَّةً لفئة الشباب، فما هي أبرز هذه التحدِّيات؟ وكيف يمكن التعامل معها؟
تحمل العولمة الكثير من الإيجابيّات المَلموسة؛ كالانفِتاح على العالم وتحويله إلى قرية صغيرة، والاطِّلاع على ثقافات وحضارات شعوب العالَم، والاستفادة من خبراتهم، ومُواكَبة كلّ ما هو جديد في عالم التكنولوجيا، ومن أبرز ما وفَّرَته العَولَمة لهذا العالَم أيضاً تدفُّق المعلومات، وسهولة التواصل عبر الحدود، ممّا أدَّى إلى انتشار الثقافات الأجنبيَّة.
ولأنَّ لكلّ عُملة وجهَين، فقد تَبِع انتشارَ الثقافاتِ والقِيَمِ الغربيةِ الكثيرُ من التأثيراتِ السلبيَّةِ والمَخاوف فيما يتعلَّق بالهويَّة الوطنيَّة، والقِيَم التقليديَّة لدى المُجتَمَع، وخاصَّة لدى فئة الشباب الذين هم -في الحقيقة- في مرحلة التنشئة الاجتماعية الكُبرى، والبحث عن الهوية الشخصية، والرغبة في خوض التجارب، وإيجاد الفُرَص، وتطوير المهارات، وهذا ما يجعلهم أكثر تأثُّراً بالعولمة، وأكثر عُرضَة للصَّدمات الثقافية.
وكنتيجة للتنوع الثقافي والمُعتَقَدات والأفكار الغربيَّة الجديدة التي جلبتها العَولَمة، أصبح المُجتَمَع أكثر تنوُّعاً ثقافيّاً ممّا كان عليه سابقاً، وهذا ما عَرَّض هويَّة الشباب وثقافتهم إلى تغييراتٍ كبيرة؛ فبدلاً من تمسُّك الشابّ بثقافته الوطنيَّة فقط، أصبح يُحاوِل تبنّي ثقافاتٍ مختلفة؛ لسهولة الاطِّلاع عليها من خلال الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي، مثل"Facebook"، و"Twitter"، و"Instagram".
فعلى سبيل المثال، أثَّرت وسائل الإعلام في تفضيلات الشباب، وبالرغم من أنَّها أسهمت نوعاً ما في اكتشاف الشباب أنماط الملابس، وأنواع الموسيقى، وخيارات الترفيه، ممّا سمح لهم بالتعبير عن أذواقهم وشخصيّاتهم الفريدة، إلّا أنَّها في الوقت ذاته رَوَّجت لمعايير مُقيّدة وغير واقعيَّة، ووضعت قوالب نمطيَّة للمظهر الخارجي والاهتمامات قد لا تتماشى مع أُسُس الدين الإسلامي، وقِيَم المُجتَمع وعاداته في كثير من الأحيان، ممّا أثر سلباً في هويَّة الشباب الإسلاميَّة والثقافيَّة، كما أدَّى إلى تراجع ثقتهم بأنفسهم؛ نتيجة عدم توافقهم مع هذه المعايير، وتعرُّضهم لضغوط مجتمعية.
ومن الجدير بالذكر أنّ هذا الارتباك في هويّة الشابّ قد يظهر في قضايا تُشكِّل خَطَراً عليه وعلى المجتمع، مثل الاكتئاب، وتعاطي المُخدِّرات، وحتى الأفكار الانتحاريَّة في بعض الأحيان.
وتحت تأثير الثقافة الغربيَّة، بات الشباب يشعرون أيضاً بأنَّ ثقافاتهم المحلِّية أقلّ قيمة أو أقلّ حَداثة، ممّا أدّى إلى إهمال العادات والتقاليد المحلِّية، وبالتالي ضعف الهوية الثقافية الوطنية؛ نتيجة تمسُّكهم بالعادات الغربيَّة بدلاً من العادات التي تُعبِّر عن تراثهم المحلّي، مثل استخدام اللغة المُختلطة، وتغيير الملابس حتى وإن كانت غير مُتَناسبة مع ثقافاتهم وعاداتهم.
وفي الواقع، يتعلَّق الأمر هنا بكيفيَّة تعامل الشباب مع تأثيرات العولمة الثقافية؛ فقد يميل البعض إلى توسيع آفاقهم، وتبنّي قِيَم مُشتَرَكة مع الناس من خلفيّات ثقافية مُتنوِّعة بما يتناسب مع قِيَمهم، مع الحفاظ على هُويَّتهم الأصلية، وفي المقابل، ترى فئةٌ من الشباب أنَّ تبنّي ثقافات أجنبيَّة يُشكِّل تهديداً للثقافة الوطنيَّة، فيتمسَّكون بهويَّتهم بقُوَّة، ويرفضون الانفتاح عليها.
وعلى الرغم ممّا سبق، إلّا أنّ التأثير الأكثر سلباً قد ينتج من تبنّي الشابّ بعض ما تحمله الثقافات الأجنبية من قِيَم وعادات تتعارض مع دينه وثقافته العربية، فيبتعد عن دينه وقضاياه، ويضعف إيمانه وتمسُّكه بقِيَمه، فيشعر بالغربة والانعزال عن مُجتَمَعه.
كما تسهم العَولَمة في تعرُّض الشباب لما يُعرَف بأزمة الهويَّة؛ أي الفشل في تشكيل مفهوم واضح للهويَّة الشخصية، وصعوبة المُوازَنة بين التطلُّعات الشخصية ومُتطلَّبات الحياة الاجتماعية، فيبدأ الشابّ بالتساؤل عن وجوده الشخصيّ، ويُقارن طبيعة حياة الشباب في مُجتَمَعه بأساليب حياة الغربِيِّين؛ نتيجة براعة الإعلام الغربي في تقديم ثقافتهم، وتمجيد معايير أساليب حياتهم.
ويُشار إلى أنَّ مُواجَهة تأثيرات العَولَمة السلبيَّة على ثقافة الشباب يتطلَّب جُهوداً مُشتَرَكة من الأفراد والمُجتَمَعات والحكومات؛ لتعزيز الوعي الثقافيّ، ودَعم الهويَّة الوطنيَّة؛ بتعزيز التعليم الثقافيّ الذي يُركِّز على تضمين المناهج الدراسية موادّ التاريخ والثقافات المحلّية، وزيادة الوعي بأهمِّية تعلُّم اللغة العربية، ودعم الفعاليات والأنشطة الثقافية، واستغلال الإعلام والوسائل التكنولوجية في الترويج لها.
كنتيجة للعولمة، بات الشباب مُنفَتِحين على الثقافة الغربيَّة؛ من خلال وسائل الإعلام والإنترنت، وقد جذبت الكثير منهم؛ لأنَّهم يَرَون فيها الحَداثة والحُرِّيَّة الفرديَّة، ممّا جعلهم يتبنَّون ما فيها من قِيَم، وهذا التبنّي السريع للقِيَم الغربيَّة وضع الشباب في دائرة مواجهة الأجيال الأكبر سنّاً، والتي تشعر بارتباط قويّ بالقِيَم والتقاليد المَحلِّية، وتَعُدّ التمسُّك بالتقاليد حماية للهويّة الثقافيّة، في حين يرى الشباب في التغيير وسيلة للانفتاح على العالَم والمستقبل، ممّا أدّى إلى نشوء صِراع بين الأجيال.
ومع زيادة التأثير السلبيّ للعَولَمة، وسوء التعامل معها من الجيلَين، لُوحِظ تدهوُر القِيَم الأُسَرِيَّة التقليدية التي كانت تقوم على التبعيَّة والاحترام بين الأجيال، إلى جانب التواصُل الهادئ فيما بينهم، والتسلسُل في اتِّخاذ القرارات؛ إذ كانت للكبار الكلمة النهائيَّة في الشؤون الأُسَرِيَّة، أمّا اليوم، فيشعر بعض الشباب أنَّ لديهم المعرفة والقدرة على اتِّخاذ قراراتهم الخاصَّة؛ بسبب الانفتاح الذي جَلَبَته العَولَمة.
ولحلّ هذا الصراع، ينبغي على الأسر والمُجتَمَعات الحرص على إيجاد توازُن بين التمسُّك بالتقاليد والانفتاح على القِيَم الجديدة؛ بالحوار المفتوح والبَنّاء بين الأجيال، بحيث يمكن للجميع التعبير عن مَخاوِفِهم وتوقُّعاتهم؛ للتغلُّب على هذه التحدِّيات، وبناء مستقبل يجمع بين أفضل ما في الماضي والحاضر.
بينما يستفيد الشباب من الفُرَص الهائلة المُرتبِطة بالخيارات الوظيفية والتعليمية الدوليَّة التي أسهمت العولمة في توفيرها، فهم يتنافسون أيضاً أشدّ التنافُس؛ إذ يتعيَّن عليهم الآن التنافُس مع مجموعة عالَمِيَّة من المواهب، وضمان بقائهم في الساحة الدولية، وبالرغم من أنَّ هذا التنافس يُمثِّل فرصة للشباب لتحقيق النُّمُوّ المهنيّ والتطوير الشخصيّ، إلّا أنّه يترافق أيضاً مع تحدِّياتٍ كبيرة؛ كإيجاد فُرَص العمل المناسبة، والشعور بالتوتُّر والخوف فيما يتعلَّق بقدرتهم على مُواكَبة الفُرَص التي تخلقها العولمة في هذا العصر سريع التغيُّر.
وفي ظلّ العَولَمة، تغيَّرت أنماط العمل إلى حَدٍّ كبير، وأصبح الاستقرار الوظيفيّ أقلّ ممّا كان عليه في الماضي؛ إذ يواجه الشباب اليوم ضغوطاً أكبر في الحفاظ على وظائفهم، ممّا تسبَّب في عدم استقرار هويَّتهم المهنيَّة أو ضمانها؛ نتيجة الحاجة إلى تحديث المهارات باستمرار؛ لمُواكَبة التغيُّرات السريعة في سوق العمل.
كما سمحت العَولَمة بسَيطرة العلامات التجارية العالَمِيَّة على جزء كبير من الأسواق المحلِّية، ممّا أثَّر سَلباً في شباب الدُّوَل النامِية؛ بتقليص فُرَص العمل، وتثبيط رِيادة الأعمال، وزيادة الضغوط الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة.
وعليه، يجب أن تتبنَّى الدُّوَل النامِية سياسات تدعم الشركات المَحلِّية، وتُعزِّز قُدراتها التنافُسِيَّة؛ بتوفير الدَّعم المالِيّ والتقنيّ للشركات الصغيرة والمُتوسِّطة، وتشجيع رِيادة الأعمال بين الشباب؛ عبر برامج تدريبيَّة وتمويليَّة مُخصَّصة، كما يمكن للحكومات تنفيذ سياسات تضمن التوازُن بين الانفتاح على التجارة العالَمِيَّة وحماية الاقتصاد المحلِّيّ.
وفي الختام، نجد أنّ الآراء تتباين حول إيجابيّات العولمة وسلبيّاتها، ولهذا لا يمكن النظر إلى العَولَمة على أنَّها خير تامّ أو شرّ تامّ، وإنّما ينبغي اعتبارها ظاهرة تحمل الكثير من التغيُّرات؛ لذا فإنّ كيفيَّة الاستفادة منها، وتجنُّب سلبيّاتها هو الأمر المُهِمّ؛ بتهيئة الشباب، وتثقيفهم في كافَّة جوانب الحياة.
المراجع
[1] apjakgc.in, INFLUENCE OF GLOBALIZATION ON YOUTH IDENTITY AND IDENTITY CRISIS
[2] egyankosh.ac.in, YOUTH, IDENTITY AND Globalization GLOBALISATION
[3] velocityglobal.com, GLOBALIZATION BENEFITS AND CHALLENGES
[4] publicedpartners.org, THE IMPACT OF GLOBALIZATION ON YOUTH: UNDERSTANDING THE DYNAMICS
[5] youth.ie, Globalisation The Youth and The Truth