علاقة الإنسان بالمكان علاقة أزلية تفرضها ظروف حياتية وطبيعية عامة وأخرى خاصة تؤثر في سيرورة هذا الكائن المفكر الحساس، سواء في بقائه وثباته على أية بقعة من العالم، أم في أسفاره وتنقلاته في أرجاء البسيطة، هذا التنقل الذي لم يتوقف والذي سيستمر ما بقيت على الأرض حياة وبقي إنسان.
وكما أن التحول والتغيير من حال إلى حال أمر طبيعي يصيب الإنسان، كذلك هو المكان، لا يبقى على الحالة التي عرفها المرء في أول مرة، فلا بد من أن تطال المكان يد التحويل والتبديل إما إلى خراب فزوال، وإما إلى مزيد من الحياة والبقاء ولكن بأشكال مختلفة وملامح جديدة تمنحه القدرة على مقاومة رياح الزمان في وجود أطول.
إن أثر المكان على نفس الإنسان وحياته - وأخص هنا أثره الإيجابي الذي يساعد على تشكل وعيه الثقافي والمعرفي وينعكس حتى على أخلاقه وتعاملاته مع الآخرين - هذا الأثر يظل مرافقاً له في دروب عمره ومسالكها المتشعبة يملؤها اعتزازاً ومحبة ، ناهيك عن كمِّ الذكريات الطيبة التي تهب نسائمها الزكية عليه في ليالي أيامه المتقادمة فتزيده حنيناً، وتظل ترتسم صور ذلك المكان الأنيس الحبيب وتتقافز أمام ناظريه نابضة بالجمال في روحه وضميره ، وتلك لحظات وإنْ كانت تمر خاطفة في أفق خاطره إلا أنها تساوي عنده الدنيا وما فيها .
بالنسبة لي فقد زرت مدناً كثيرة وتنقلت فيما مر من أيام حياتي بين أماكن عدة ما بين إقامة ودراسة وسياحة وعمل، جميعها أعجبتني وسرَّني وجودي فيها وأكسبتني معارف وخبرات حياتية جديدة، لكنَّ ثلاثاً من تلك المدن، ثلاثاً لا غير، أحببتها حدَّ العشق والوله، وكان لها أثر في عمق نفسي ومازال باقياً فيها وفي فضاء فكري وامتداد خواطري.
وأولى الثلاث الساحرات، ذوات الأثر على العمر والذات مسقط الرأس عدن، عدن الحضارة والجمال والسلام، تلك المدينة العربية الأصيلة التي ولدتُ فيها ونشأت وترعرعت في أحضانها الدافئة، موطني وموطن أبي وأجدادي.
ولدتُ في عدن فولدت العزةُ معي، ولد الشرف والكبرياء، ولد الفن والأدب.. وولد الشعر، كيف لا وكل ذرة من تراب عدن، كل نسمة تهب في لياليها المحملة بروائح الفل والكاذي والبخور العدني، وصباحاتها المشرقة المضمخة بأنفاس البحر، وكل ساحل وجبل.. كل المقاهي والشوارع والمنازل، كلها منابع إلهام أرتوي من كوثرها وأرش منه على غادات أيامي وحسناوات الزمان فتزهر وتزهو.
و ثانية الثلاث الفاتنات شارقة العرب المشرقة بأنوار الثقافة والأصالة، هذه المدينة الساحرة الباهرة التي تجعل للوجود معنى بكل ما تسبغ على قاطنيها وزائريها من صور الألفة والمحبة والجمال، ففي رحاب الشارقة وبين أحضانها صار لنبض القلب إيقاع، ولخطى العمر أنغام وألحان.. كل ما كنت أحلم به من حياة تظللها أغصان الثقافة الوارفة في أسمى صورها ومعانيها وجدته في الشارقة، وجدت فيها الفنون والآداب تسير معاً متعانقة كل يوم.
وجدت المعارف والعلوم تتجلى في مراكزها ومعاهدها وجامعاتها، وجدت اللغة العربية تبتسم على جبينها الوضاء فرِحةً بكل أشكال الاحتفاء بها، وبالأيادي البيضاء التي تصونها وتحافظ على شبابها ورونقها وتحفظها من عوادي الزمان، ووجدت الشعر يتجول في شوارعها وساحاتها وشواطئها ومبانيها التراثية وفي ملامح نهضتها الشاملة.
إن الشارقة التي أتحدث عنها - ولا أراني موفِّيها حقها من الوصف والثناء بالكلمات - حفرت أثرها عميقاً في نفسي، فكانت ومازالت ملهمتي الجميلة الأصيلة.
وأما ثالثة الثلاث الملهمات مدينة مينسك عاصمة جمهورية روسيا البيضاء التي سافرت إليها في ريعان شبابي للدراسة الجامعية.. هناك تفتقت المشاعر وتندى الوجدان من نسائم طبيعتها الأوروبية الخلابة الباردة، وسحرني جمالها الفاتن، قضيت في ربوع تلك المدينة الحسناء أكثر من 6 سنوات أدرس وأستمتع بأجوائها الباردة وثلوجها البيضاء وحدائقها الغنَّاء وبساتينها الخضراء العاطرة ما حفز وحرك أوتار الإلهام في نفسي الشاعرة، وأبقى فيها أثراً لا يزول مع مَرِّ الأيام وتعاقب السنين.
وما أود قوله في هذه الإماطة القلمية باختصار هو أن المكان بالنسبة للإنسان ليس مجرد تراب وأحجار أو أرض وسماء، لكنه عشق وانجذاب وانتماء، وجود وحياة ووفاء، إنه أكبر وأشمل في المعنى من بقعة يعيش فيها أو مساحة يمشي عليها.. إنه الأثر الذي يبقيه فيه ويظل يلمسه ويحمله معه في أحناء روحه، أينما يحل ويرتحل حتى آخر يوم من عمره وآخر نَفَس من مهجته.