لطالما كان للبشر حُب للاستكشاف، وذلك ناتج عن الطبيعة البشرية التي تتسم بالفضول وحب الاطلاع على الظاهر وغير الظاهر من الأشياء، ولهذا كان حب تخطي الحدود واستكشاف المجهول المحرك الرئيسي لطاقم رحلة أبولو 11 للذهاب إلى القمر في عام 1969، والذي تحقق من خلاله إنجاز زيارة القمر وتجربة التواجد على جرم سماوي فريد كالقمر.
والآن بعد أكثر من 50 عاماً، تتوجه أنظار العالم نحو القمر مجدداً، والسؤال الذي يطرح الآن هو لماذا العودة إلى القمر الآن؟ هل هي محاولة لإعادة نجاحات الماضي؟ أمْ أنَّ هُناك دوافع أخرى تجعل المختصين في هذا المجال يتوجهون مرة أخرى لهذا الجرم السماوي؟
لقد كانت مهمة أبولو عبارة عن سلسلة من عدة محاولات حتى وصلنا إلى رحلة أبولو 11 وما بعدها، فكانت رحلة أبولو 1 أول انطلاقة لهذه المهمة حيث كان على متنها 3 رواد فضاء، ولسوء الحظ حدث عطلٌ في المحرك وانفجرت المركبة قبل الإقلاع، مما أدى إلى وفاة جميع رواد الفضاء داخل المركبة.
وتمت بعد ذلك العديد من المحاولات واستمرت الرحلات التي كانت دون رواد فضاء على متنها (أبولو 2 الى أبولو 6) إلى أن نجحت رحلة أبولو6 في الدوران حول الأرض والوصول لمسافات قريبة من القمر.
وتعاقبت بعد ذلك رحلات أبولو 7 و9 واستمرت بالدوران حول مدار الأرض وتحقيق النجاح في ذلك، لتأتي رحلة أبولو 8 والتي تعد أول مركبة مأهولة تدور حول القمر.
وبعد سلسلة الرحلات والمحاولات تلك، انطلقت رحلة أبولو 11 لتشهد أول هبوط بشري على سطح القمر بقيادة "نيل أرمسترونغ"، وتوالت بعدها الرحلات البشرية إلى القمر لدراسة سطحه جيولوجيًا، ولجمع العينات من سطح القمر، واختممت رحلات أبولو برحلة أبولو17 والتي كانت آخر رحلات هذه المهمة، التي توقفت لأسباب مادية وسياسية.
ويُعَد القمر أرشيفاً جيولوجياً محفوظاً للإجابة عن أسئلتنا حول تاريخ النظام الشمسي، فكما نعلم أنَّ القمر يفتقر للنشاط الجيولوجي والغلاف الجوي، مما يعني أنَّ جميع الصخور والمعادن لا تزال مرتكزة في أماكنها الأولية، مما يساعدنا لدراستها وتحليلها وهي محتفظة بأصالة طبيعتها الأولية الغنية. بالإضافة إلى ذلك، يعد القمر مفتاحاً أساسيا لعصرٍ جديد لاستيطان البشر للفضاء عن طريق جعله منطقة تدريب للبقاء لفترات طويلة في بيئة خالية من الغلاف الجوي وبجاذبية أقل بـ 6 مرات عن جاذبية الأرض.
وتتوجه الآراء أيضاً لجعل القمر محطة عبور للانتقال إلى كواكب أخرى مثل كوكب المريخ، وكوكب الزُهرة وبناء مستوطنات على أسطحها، إذ تعد إحدى أهم الأسباب التي أدت إلى تسارع السباق نحو القمر أيضا هو تعزيز التعاون والعلاقات الدولية، حيث تقوم وكالات الفضاء بالتعاون مع شركاء دوليين، مما يسهم في توطيد العلاقات بين الدول، وذلك عن طريق توحيد الأهداف والتوسع في مجال الفضاء.
وتتماشى تلك المبادرات الدولية مع رؤية دولة الإمارات العربية المتحدة وخطة المئة عام، التي تهدف إلى بناء أول مستوطنة بشرية على سطح الكوكب الأحمر بحلول عام 2117.
ومن أبرز المساهمات الإماراتية في مجال استكشاف القمر هو إطلاق "المستكشف راشد" إلى القمر في عام 2022، ولكن تم فقدان الاتصال بالمركبة، وبعد تلك المهمة التي لم تكتمل، أعلن الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي عن المهمة القمرية الجديدة وهي "المستكشف راشد 2 " والذي سيحمل أجهزة استشعار وكاميرات مطوّرة لعدة أهداف منها: دراسة سطح القمر بشكل أعمق، والبحث عن مصادر محتملة للمياه، وتطوير مهارات وكوادر إماراتية في تقنيات استكشاف الفضاء.
إن توجه الدولة نحو استكشاف القمر هو ليس وليد اللحظة، إنما هو تحقيق لطموح الوالد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان -طيب الله ثراه- حين التقى بوفد من وكالة ناسا وأعضاء من مهمة أبولو 17 في عام 1976، والتي تعتبر المحطة الأولى التي أشعلت طموح الإمارات في استكشاف الفضاء وما بعد الفضاء، فرؤى القادة المؤسسين -رحمهم الله- وحكمة قادتنا -حفظهم الله ورعاهم- هي مصدر الإصرار والدافع الأول لتحقيق الكثير في هذا المجال غير المتناهي.
ويمكن القول أنَّ العودة إلى القمر ليست مجرد استكشاف لجرم سماوي قريب، بل هي استثمار في مستقبل البشرية العلمي، حيث يفتح القمر أبواب الابتكار والاستكشاف العلمي والتعاون الدولي، ويمهد الطريق لاستيطان الفضاء واكتشاف أعمق لأسرار الكون الواسع.