إن الرفق خلق إسلامي رفيع يدل على جوهره وأهميته في فن التعامل الإنساني ما ورد في أصل اشتقاقه اللغوي من الموافقة والمقاربة بلا عنف، ومنه يشتق كل شيء يدعو إلى راحة وموافقة، وهو ما استقر عليه الأمر في المعاجم اللغوي من أن أصل الدلالة يبقى في محورين من لين الجانب، ولطافة الفعل (مقاييس اللغة، العين).
وأما معناه الاصطلاحي فلم يخرج في سياقاته ودلالاته عن هذين المحورين؛ فعرفه ابن حجر بأنه:" لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل، وهو ضد العنف" (فتح الباري).
وتعدّ هذه الدلالة للرفق وما استقرت عليه من مضامين ترسي قواعد التعامل الإنساني مطلوبة شرعاً في كل تصرف أو سلوك يصدر عن الإنسان في كافة شؤونه الحياتية، وعلاقاته مع الآخرين في مجتمعه، فهو يمثل أساس الجمال والنقاء، فيما يصدر عنه من أقوال وأفعال في التعامل، والعلاقة الإنسانية؛ إذ المعاملة الطيبة مبناها اللين الذي يعد مطلباً من مطالب حسن خلق المسلم.
ويقول الغزالي في إحياء علوم الدين في تفسير حقيقة خلق الرفق، وبيان مزاياه:" اعلم أن الرفق محمود، ويضاده العنف والحدة، والعنف نتيجة الغضب والفظاظة، والرفق واللين نتيجة حسن الخلق والسلامة، وقد يكون سبب الحدة الغضب، وقد يكون سببها شدة الحرص واستيلاءه بحيث يدهش عن التفكير ويمنع من التثبت؛ فالرفق في الأمور ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق، ولا يحسن الخلق إلا بضبط قوة الغضب، وقوة الشهوة وحفظهما على حد الاعتدال، ولأجل هذا أثنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الرفق وبالغ فيه".
وعند النظر في الدلالات التي تضمنها النص نرى أنها مستقاة في أصلها من النصوص النبوية الواردة في الرفق وآثاره الحميدة على كل من تمثل به، والتزم نهجه، وعمل به في كل أمر من أموره، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:" إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه"(مسلم)، وقوله صلى الله عليه وسلم:" إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق"(أحمد)، وقوله صلى الله عليه وسلم:" من أعطى حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير"(الترمذي).
ومفاد ذلك كله، أن الرفق محمود، ومطلوب تحصيله، وأن العنف غير محمود، ومطلوب نبذه، والابتعاد عنه؛ لمنافاته مقاصد الشارع في التعامل سواء مع النفس، أم مع الغير على حد سواء، لقوله صلى الله عليه وسلم:" يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي العنف، وما لا يعطي على ما سواه"(مسلم).
وليس للرفق صورة محددة بعينها؛ فهو عام في كل أمر يتصل بالإنسان، سواء أكان في تعامله مع نفسه، أم مع غيره من مسلم، أو غير مسلم، موافق له، أم مخالف له، كبير أم صغير، فقير أم غني، وإلى ما لا حد له مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم:" إن الله يحب الرفق في الأمر كله"(البخاري)، وعلى مقتضى هذا النص منطوقاً ومفهوماً؛ فإنه يدخل في كل باب من أبواب الخير التي ينبغي على المسلم أن يحصل فوائده، ويحقق مقاصده، ويرسخ استدامته في جميع قواعد التعامل والتواصل مع الغير.
وإذا التزم الفرد ذلك في سلوكه، وتصرفاته كخلق أصيل له في كافة النطاقات والمجالات التي يتغيّاها أصالة أم تبعاً؛ فإن آثاره الدينية والدنيوية تنعكس بشكل جلي على فاعله سواء ما يتعلق منها بالأجر والثواب من الله عز وجل، أو بتحصيل مقاصده التربوية والاجتماعية والنفسية وغيرها مما يعود بالاستقرار والديمومة على النسيج الاجتماعي بكافة أطيافه في المجتمع، وذلك بسبب ما ينتجه من إيجابية بين جميع أبنائه، والتي بدورها تخلق بيئة اجتماعية مستدامة بين أفراده تقوم على الاحترام المتبادل، والمحبة، والتسامح، وتسهم في بناء علاقات طيبة، ومستمرة بين الجميع، وتحقق قنوات اتصال فعالة داخل المجتمع، وتوفر الأمن والطمأنينة، والاستقرار النفسي، والشعور بالرضا، وما تلكم إلا عوامل رئيسة لا غنى عنها في البناء والتقدم، والعطاء والبذل، وتكريس إنجازات الدولة.