جار التحميل...
إن هذه النجاحات المتسارعة ليست سوى جزء من التحوّل الثوري الذي أحدثته كريسبر-كاس9 في عالم الهندسة الجينية، إذ تتيح هذه التقنية إجراء تعديلات محددة على الحمض النووي بدقة عالية وتكلفة منخفضة، مما يفتح المجال أمام تطبيقات واسعة في الطب، علم الأحياء والزراعة.
لكن هذا التقدّم السريع رافقته تساؤلات أخلاقية، خاصة بعد الإعلان في عام 2018 عن ولادة أول "طفلين معدلين جينيًا" من خلال تدخل في مرحلة الأجنة، في تجربة لم تخضع لأي مراجعة علمية أو أخلاقية معتمدة، مما أثار جدلًا عالميًا حول حدود العلم ومسؤولية العلماء. فما هي تقنية كريسبر-كاس9 الثورية التي فتحت آفاقًا علاجية جديدة لأمراض جينية كانت تُعد صعبة العلاج؟
في عام 1987، اكتشف فريق من العلماء اليابانيين تسلسلات متكررة من الحمض النووي داخل جينوم البكتيريا عُرفت لاحقًا باسم كريسبر. على مدى السنوات التي تلت هذا الاكتشاف، توصل الباحثون إلى أن هذه التسلسلات تلعب دورًا أساسياً في النظام المناعي للبكتيريا ضد الفيروسات، حيث تحتفظ بجزء من الحمض النووي الفيروسي وتستخدم بروتين "كاس" لقطعه عند تكرار الهجوم الفيروسي.
وفي عام 2012، تمكنت العالمة الفرنسية إيمانويل شاربنتييه والعالمة الأميركية جينيفر من تطوير هذا النظام ليتم استخدامه في تعديل الحمض النووي داخل الخلايا البشرية، ونُشر هذا الاكتشاف الرائد في مجلة Science، وكان بمثابة نقطة تحول في مجال الأبحاث والعلاجات الجينية، ما أكسب العالمتين جائزة نوبل في الكيمياء عام 2020.
منذ تطويرها، أصبحت تقنية كريسبر-كاس9 أداة أساسية تُمكَن العلماء من استكشاف وظائف الجينات وتطوير علاجات مبتكرة، ففي ديسمبر 2023، وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية على أول علاج جيني بتقنية كريسبر، وهو "كاسجيفي" (Casgevy)، لعلاج فقر الدم المنجلي والبيتا-ثلاسيميا.
وفي مجال علاج السرطان، تُستخدم كريسبر في الأبحاث لتعطيل الجينات المسرطنة، كما أثبتت التقنية إمكانيات واعدة في علاج الأمراض العصبية، وتُجرى حاليًا دراسات لاستكشاف فعاليتها المحتملة في علاج عدوى فيروس نقص المناعة البشرية. بالإضافة إلى ذلك، تقدم كريسبر حلاً واعداً لمشكلة مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية، مما يساهم في مواجهة هذا التحدي الصحي العالمي.
لم تقتصر تأثيرات تقنية كريسبر-كاس9 على المجال الطبي فحسب، بل امتدت إلى مجالات أخرى مثل الزراعة والبيولوجيا التركيبية. في مجال الزراعة على سبيل المثال، تُستخدم تقنية كريسبر لتعديل المحاصيل الزراعية لتصبح أكثر مقاومة للأمراض أو لتحسين إنتاجيتها، وتمثل زراعة القمح الخالي من الغلوتين أحد الابتكارات التي تعمل التقنية على تحقيقها، مما يفتح آفاقًا لتحسين جودة الغذاء وتلبية احتياجات صحية محددة.
رغم التفاؤل الكبير بإمكانيات كريسبر، إلا أن استخدامات التقنية قد تثير تساؤلات أخلاقية. واحدة من أبرز المخاوف تتعلق بالآثار الجانبية غير المتوقعة التي قد تنتج عن تعديلات غير مستهدفة في الجينوم. لمواجهة هذه التحديات، يجري تطوير تقنيات جديدة تهدف إلى تحسين دقة التعديلات الجينية والحد من الأخطاء.
ومع ذلك، فإن الجدل الأخلاقي لا يقتصر على الجانب التقني فقط، بل يمتد إلى الخوف من التدخلات الجينية الموروثة. تكمن هذه المخاوف في أن التعديلات الجينية التي يتم إجراؤها على الأجنة أو الخلايا القابلة للتوريث يمكن أن تنتقل إلى الأجيال القادمة، وهذا يعني أن أي تعديل غير دقيق أو غير مدروس قد يحمل تأثيرات طويلة الأمد وغير معروفة على النسل البشري، وقد يؤدي إلى مشكلات صحية قد تستمر عبر الأجيال.
ففي عام 2018، أثارت ولادة توأمتين معدلتين جينيًا لمقاومة فيروس نقص المناعة البشرية صدمة كبيرة في الأوساط العلمية والمجتمعية. هذا الحدث فتح باب النقاش حول مسؤولية العلماء في استخدام التقنية بشكل آمن، وحول الحدود التي يجب أن تُرسم للتدخل في الجينات البشرية.
ولا شك أن تقنية كريسبر-كاس9 تُعد ثورة علمية غير مسبوقة، لكن يبقى السؤال الأهم الذي يطرحه العلماء والمجتمع: هل ستتمكن البشرية من تسخير هذه التقنية الثورية لخدمة مستقبل أفضل؟ الإجابة تكمن في مدى قدرتنا على تحقيق التوازن بين الابتكار العلمي والمسؤولية الأخلاقية.