جار التحميل...

mosque
partly-cloudy
°C,

بين داروين والواقع: رحلة العلم والأسئلة الوجودية

بين داروين والواقع: رحلة العلم والأسئلة الوجودية
download-img
لطالما شكّلت نظرية التطور التي طرحها العالم البريطاني تشارلز داروين إحدى أكثر الأفكار العلمية تأثيرًا وإثارة للجدل في تاريخ العلم الحديث، فمنذ أن نشر داروين كتابه الشهير "أصل الأنواع" عام 1859، والعالم لم يتوقف عن مناقشة وتفسير وتحدي رؤيته للطبيعة والتنوع الحيوي، فبينما اعتبرها البعض اختراقًا علميًا مدهشًا يفسر تنوع الحياة على الأرض، نظر إليها آخرون على أنها تهديد للعقيدة والدين والأخلاق.
وتعتمد جوهر نظرية داروين على فكرتين رئيسيتين: الانتخاب الطبيعي، أي أن الكائنات الحية التي تملك صفات تساعدها على البقاء في بيئتها هي الأقدر على البقاء والتكاثر، ومن ثم تنتقل هذه الصفات إلى الأجيال اللاحقة؛ والتنوع الوراثي، حيث أن كل كائن حي ينتمي إلى نوعه، لكنه يختلف عن غيره من أفراد نفس النوع بصفات معينة، وهذا التنوع هو ما يمنح بعض الأفراد ميزة نسبية. 

ونلاحظ أن داروين لم يتحدث عن الجينات أو الحمض النووي (DNA)، إذ لم تكن هذه المفاهيم قد اكتُشفت بعد، لكنه لاحظ أن الكائنات تتغير عبر الزمن، وأن هذه التغيرات تخضع لضغط الانتقاء البيئي.

ومع اكتشاف الوراثة الجينية على يد غريغور مندل في أواخر القرن التاسع عشر، وظهور علم الجينات في القرن العشرين، تطورت نظرية داروين لتدمج مفاهيم أكثر دقة عن انتقال الصفات، وأصبح ما يُعرف اليوم بـ "الداروينية الجديدة" هو الإطار النظري المقبول في علم الأحياء التطوري، إذ تجمع بين الانتخاب الطبيعي والمبادئ الجينية الحديثة. 

وتُدعم هذه النظرية اليوم بأدلة واسعة من علم الأحافير، الذي يظهر سجلاً متسلسلاً لتغير الأنواع عبر الزمن، وعلم الوراثة الجزيئية، الذي يكشف التشابهات الدقيقة في الشيفرات الوراثية بين الكائنات الحية، بالإضافة إلى دراسات علم الأحياء التطوري التي ترسم شجرة الحياة من منظور جيني دقيق.

لكن نظرية داروين لم تُحدث جدلاً علميًا فحسب، بل هزّت بُنى فكرية ودينية راسخة، خصوصًا في المجتمعات التي تنظر إلى الخلق بوصفه فعلًا إلهيًا مباشرًا، ففي الغرب، خاضت الكنيسة صراعات فكرية حول هذه النظرية، وفي العالم الإسلامي لا تزال العلاقة بين التطور والدين مثار نقاش. 

فالبعض يرى فيها تعارضًا مع النصوص المقدسة، وآخرون يسعون للتوفيق بين النصوص والنظرية عبر تأويل مجازي للخلق، وفي خضم هذا الجدل، يبرز التساؤل العميق: هل يمكن التوفيق بين الإيمان والعلم؟ والإجابة عند كثير من العلماء والمفكرين هي نعم، إذا ما تم احترام حدود كل من العلم والدين، دون أن يلغي أحدهما الآخر.

وعلى الرغم من أن داروين نفسه لم يدعُ إلى أي تفسير اجتماعي أو سياسي لنظريته، فقد تم توظيف أفكاره بشكل منحرف في بداية القرن العشرين ضمن ما يسمى بـ"الداروينية الاجتماعية"، وهي حركة فكرية استخدمت مفهوم "البقاء للأصلح" لتبرير التمييز العنصري، والاستعمار، وسياسات الإبادة الجماعية. 

فقد ادّعى بعض المفكرين أن الإنسان الأبيض الأوروبي هو الأرقى، ويحق له السيطرة على "الأجناس الأدنى"، وهي قراءة غير علمية للتطور، بل قراءة منحازة أيديولوجيًا، رفضها لاحقًا معظم العلماء، ويؤكد الباحثون المعاصرون أن التطور يفسر آليات بيولوجية، لا أنه يصوغ منظومة أخلاقية أو اجتماعية.

كما أن أحد أكثر النقاط التي تثير الحساسية في نظرية داروين هي العلاقة بين الإنسان والحيوانات الأخرى، لا سيما القردة العليا كالشمبانزي، إذ تظهر الدراسات الجينية أن الإنسان يشترك مع الشمبانزي في أكثر من 98% من الجينات، ما يُعد دليلًا قويًا على أن لهما سلفًا مشتركًا. 

إلا أن هذا التشابه لا يعني تطابقًا، فهناك قفزات عقلية ومعرفية هائلة تميز الإنسان، مثل القدرة على التفكير المجرد، والوعي الذاتي، واللغة، والدين، والفن، وهنا تتحدى الفلسفةُ والعلمُ بعضهما البعض في تفسير هذا التفوق الإنساني: هل يمكن أن يكون نتاجًا بيولوجيًا محضًا، أم أن هناك روحًا، أو وعيًا أعلى، لا يمكن تفسيره بمفردات المادة والجينات؟

وفي العصر الحديث، ومع التقدم الكبير في علم الجينوم، باتت نظرية التطور أكثر دعمًا بالأدلة الدقيقة، فمشروع الجينوم البشري، وتقنيات تعديل الجينات مثل كريسبر (CRISPR)، أتاحا فهماً غير مسبوق للجينات البشرية، ولآلية عمل الطفرات، وتطور الصفات، ويمكن اليوم تعقّب الجينات عبر الزمن، ودراسة كيف يتطور كائن حي من خلال تحليل سلاسل الحمض النووي. 

لكن هذا التقدم العلمي يطرح تحديات أخلاقية جديدة: هل يحق للبشر تعديل جيناتهم لتحسين صفاتهم؟ وهل نحن بصدد انتقال من التطور الطبيعي إلى تطور اصطناعي؟ وهنا تعود نظرية داروين إلى الواجهة، ولكن في سياق جديد تمامًا: الإنسان الآن لا يخضع فقط لقوانين الطبيعة، بل يتدخل فيها ويوجهها.

أما في مجال التعليم، فتدريس نظرية التطور لا يزال محل نزاع في بعض الدول، حيث تمنع أو تُشوَّه بدوافع دينية أو ثقافية، بينما يرى العلماء أن الفهم الصحيح للتطور ضروري لفهم علوم الأحياء، والطب، والبيئة، كما يتطلب الأمر في الوقت ذاته حساسية ثقافية وتربوية، تحترم معتقدات الطلاب دون أن تفرّط بالعلم، فالتعليم الجيد لا يعني فرض الأفكار، بل تقديمها بطريقة موضوعية، تسمح بالنقاش، وتبني التفكير النقدي.

ومع تطور العلوم، لم تعد نظرية التطور محصورة بالكائنات الحية فحسب، بل توسّعت لتشمل مفاهيم مثل "التطور الثقافي"، حيث يُنظر إلى الثقافة، واللغة، والتقاليد كعوامل تؤثر في بقاء المجتمعات وتطورها، كما أظهرت أبحاث الإيبيجينتيك (الوراثة فوق الجينية) أن العوامل البيئية يمكن أن تغيّر تعبير الجينات دون تغيير الحمض النووي، ما يضيف بعدًا جديدًا للنقاش حول كيف تتفاعل الطبيعة مع الظروف الخارجية في صياغة مصير الكائن الحي.

وفي خضم كل هذه التحولات، تبدو نظرية داروين، رغم قدمها، حية ومتجددة، فقد ألهمت أجيالًا من العلماء، ودفعت حدود المعرفة إلى آفاق لم تكن متوقعة، لكنها أيضًا خلقت مساحة للأسئلة الوجودية: من نحن؟ ولماذا نحن هنا؟ وهل نملك السيطرة على تطورنا، أم نحن مجرد نتيجة لصراع الطبيعة المستمر؟

وفي النهاية، لا يدعي العلم امتلاك كل الإجابات، كما لا ينبغي للدين أن يغلق الباب أمام الأسئلة، وبين داروين والواقع، تبقى الحقيقة في مكان ما بين المادة والروح، بين المختبر والضمير، وبين العقل والإيمان، وكما تقول نظرية داروين: البقاء للأصلح، لكن السؤال الأعمق يبقى: ما هو "الأصلح"؟ هل هو الأقوى، أم الأذكى، أم الأكثر حبًا ورحمة؟ ربما، في نهاية المطاف، البقاء لمن يُفيد العباد، ويعمّر البلاد.





July 10, 2025 / 10:12 AM

مواضيع ذات صلة

أخبار ذات صلة

Rotate For an optimal experience, please
rotate your device to portrait mode.