لا يقوم مشروع التراكيب النحوية ودلالتها في القرآن الكريم بتحليل التراكيب النحوية القرآنية فقط، وإنما يتصدى لمحاولة استقصاء مختلف دلالات هذه التراكيب انطلاقًا من النحو، حيث يتعانق النحو مع الدلالة ويتشكل المعنى القرآني على وفق نسيج متكامل من الأدوات المنهجية وإمكانات البحث بها، إنه يجعل من الخطاب القرآني الأداة والوسيلة والغاية في الفهم، ويقرّب علم النحو وأبوابه للذهن، فيجمع بين حبّ العربية بنحوها وصرفها وفنونها، وحبّ القرآن الكريم بنظمه وإعجازه وعلومه، وهو يحاول عن طريق هذا الجمع فهم كلام منزِّلِه الله تعالى.
ولما كانت مفاتيح العلوم مصطلحاتها، وكانت ثمارها نتاج مناهجها عند التطبيق، كان واجبًا على المنتسبين لهذا المشروع الذي بدأ فتيًّا في قسم اللغة العربية بجامعة الشارقة، ولا يزال يؤتي ثماره مع كل جزء من أجزاء القرآن الكريم التي تكتب، وتناقش، ولا تمثّل هذه المقالة المنهج كاملاً، ولكنها تقدّم أنموذجًا لطريقة التحليل في هذا المشروع القرآني.
وسأعرض لتركيب نوع واحد من أنواع الجملة العربية وهي: الجملة الاسمية، من مجموع التراكيب الواردة في سورة يس، وهو التركيب الذي جاء فيه المبتدأ ضميرًا والخبر معرّفًا بـ (أل):
• ﭧ ﭨ ﭽ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩﭼ[سورة يس: الآية 81].
التركيب النحوي:
حرف عطف (و)+ ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (هو)+ خبر (الخلّاق)+ صفة (العليم).
دلالة التركيب:
يتضمّن التركيب النحوي: ﭽ ﯦ ﯧ ﭼ من الدلالات المستنبطة من الجملة المؤلّفة من الضمير (هو): الله جلّ جلاله: الواقع مبتدأ، وخبره المعرّف بـ (أل) (خلاّق) ما يأتي:
وجاء استخدام ضمير الغائب (هو) مخالفة لدلالته في نظام اللغة العربية، التي يدل فيها هذا الضمير على الغيبة، فيما يعود في هذه الجملة على "الذي خلق السموات والأرض"، وهو الله تعالى أعرف المعارف، وذلك أنه حينما نتحدث بضمير الغائب عن الله، فمعناه أنّ الله موجود وحاضر، لكننا عندما نعبّر عنه بالغيبة، فلأنه حاضر معنا غائب عن أبصارنا وعيوننا، قال الله تعالى: ﭐﱡﭐ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚﱛ ﱜ ﱝ ﱞﱟ ﱠ [سورة الأنعام: الآية ١٠٣].
وفي ذكر (الخلاّق) معرّفًا بـ (أل) بعد استخدام الضمير (هو) تأكيد على مسألة الخلق، كأنه يقول: إنّ الذي خلق السموات والأرض خلّاق، والجملة موجّهة لغير من يؤمن بالله من جهة أنه الخالق، "فإن قال قائل: فأنت تقول: الله ربّنا، وهذا معلوم معروف، قيل له: هو معروف عندنا وعند المؤمنين، وإنّما نقوله ردًّا على الكفار وعلى من لا يقول به"(ابن السراج: الأصول، ج1، ص 65،66.)، (وهو الخلّاق) نقوله لمن لا يؤمن بقدرة الله في الخلق، "ولأنّ اسم الخلّاق من صفات الله تعالى، ولا تجوز هذه الصفة بالألف واللام لغير الله عزّ وجلّ، وهو الذي أوجد الأشياء جميعها، بعد أن لم تكن موجودة: وأصل الخلق التقدير، فهو باعتبار تقدير ما منه وجودها بالاعتبار للإيجاد على وفق التقدير: خالق.
والخلق في كلام العرب على وجهين: الأول: الإِنشاء على مثال لم يسبق إليه. وكلّ شيء خلقه الله فهو مبتدئه على غير مثال سبق إليه، والآخر: التقدير"(ابن منظور: محمد بن مكرم، لسان العرب).
ودلّ استعمال صيغة المبالغة المعرفة بـ (أل) (خلاّق) على كثرة ما خلق الله، ويخلق، وسيخلق، وفي استخدامها "مجاز، إذ هي موضوعة للمبالغة ولا مبالغة فيها لأنّ المبالغة هي أن تثبت للشيء أكثر ممّا له، وصفات الله متناهية في الكمال لا يمكن المبالغة فيها، والمبالغة أيضًا تكون في صفات تقبل الزيادة والنقصان، وصفات الله تعالى منزّهة عن ذلك"(الحوفي: علي بن إبراهيم بن سعيد، البرهان في علوم القرآن، ج2، ص 507)، لكن المبالغة في (الخلاّق) يلحظ فيها جانب المخلوق بالنظر إلى كثرة الخلق وتعدّده وتنوّعه.
وفي التعبير باسم (الخلّاق) دليل آخر على قدرة الله سبحانه وتعالى في الخلق، واستدلال على البعث، وهي: السموات والأرض، من خلقها؟ إنه الله سبحانه، بإقرار الكافرين والمشركين أنفسهم.. فهم لا يعرفون لهما خالقًا غيره. كما يقول سبحانه وتعالى: ﱡﭐ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫﲬ ﲭ ﲮ ﲯﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴﲵ ﱠ [سورة لقمان: الآية ٢٥].
وناسب نهاية الآية بدايتها ووسطها من حيث استخدام الفعل (خلق) ثلاث مرات، في بدايتها حين قال: "الذي خلق"، بصيغة الماضي، ثم قال: "بقادر على أن يخلق" بصيغة المضارع، فهو يخلقُ خَلقًا بعد خلقٍ، وختمها باسم "الخلّاق" بصيغة المبالغة الدالة على كثرة الخلق، وإعادته متى شاء الله وكيفما أراد.
وقابل تركيب هذ الآية تركيب الآية التي قبلها ﭧ ﭨ ﭽ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬﭼ، من حيث مقابلة صيغة الخلق لصيغة الخلق في كلّ منهما، من حيث العموم والخصوص، فابتدأ الحديث عن علمه بكل خلقه (بكلِّ خلقٍ) ابتداء من خلق الإنسان وإحياء العظام وهي رميم، وصولاً إلى تخصيص الحديث عن فعل الخلق، بالحديث عن كثرته، واشتماله على ما في السموات والأرض (وهو الخلّاق).
وقرأ الحسن والجحدري وزيد بن علي ومالك بن دينار (وهو الخالِق) بزنة الفاعِل، وفي الفرق بين اسم الخَالِق والخلّاق: أنّ الخالق هو الذي ينشئ الشيء من العدم بتقدير، وعلم ثم بتصنيع وخلق عن قدرة وغنى، فالخالق هو الذي قدر بعلم وصنع بقدرة فخلق الشيء من العدم، أمّا الخلّاق فصيغة مبالغة من الخالق الموصوف بخلق غيره، وهو الذي يبدع في خلقه كمًّا وكيفًا، كما يخلق ما يشاء.
فقد سمّى الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادًا به العلميّة ودالًّا على الوصفية في نصين اثنين من النصوص القرآنية في هذه الآية، وفي قوله تعالى: "إنّ ربك هو الخلّاق العليم" [سورة الحجر: الآية 86]، وجاءت بعد الحديث عن مسألة خلق السموات والأرض أيضًا: "وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحقّ وإنّ الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل" [سورة الحجر: الآية 85].
وهناك توجيه إعرابي آخر لـ (العليم) الذي هو صيغة مبالغة على وزن (فَعِيل)، وهو أنه خبر ثانٍ للمبتدأ الضمير (هو)، وإنّ الإخبار بـالخبر أقوى في الدلالة من الإخبار بالوصف. وفي تعريف الخبرين بـ (أل) دلالة على الحصر والقصر الحقيقي، لأنّ القصر حقيقي وإضافي، فإذا قلنا: زيد العالم، كأننا قصرنا عليه العلم بالإضافة إلى مَن يماثله من البشر، لكنه حين قال (الخلاق العليم)، فهذا قصر حقيقي لأنه لا يناظر خلق الله وعلمه بخلق غيره.
وأمّا عن الفرق بين الخالق والخلّاق، فهو الفرق بين اسم الفاعل وصيغة المبالغة، ذلك أنّ (الخالق) بصيغة اسم الفاعل ورد في موضع واحد، هو قوله تعالى: ﭐﱡﭐ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶﲷ ﲸ ﲹ ﲺﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁﳂ ﳃ ﳄ ﳅﳆﱠ [سورة الحشر: الآية ٢٤]، فجاء اسم (الخالق) في سياق ذكر أسماء الله المبنية على صيغة اسم الفاعل الدال على ثبوت الوصف بصاحبه واستمراره فيه، وهي من أسماء الذات والفعل معًا في حقّ الله تعالى.
وأمّا مجيء (الخلاق) في هذا التركيب على صيغة المبالغة الدالة على كثرة خلق الله. فـ (الخالق) من ناحية تعلقه باسم الفاعل دال على صفة ذاتية، و(الخلاق) من حيث تعلقه بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة دال على صفة الفعل في الخلق.
إنّ هذه الدلالات المنبثقة عن التركيب النحوي في قوله تعالى: "وهو الخلاق العليم" ما هي إلا دلالات لأنموذج واحد من النماذج الكثيرة التي تتآلف فيما بينها داخل السورة الواحدة المتحدى بها الخلق من القرآن الكريم (سورة يس)، لبناء منظومة التراكيب النحوية الخاصة بفقه دلالات هذه السورة، التي يتداخل لاستنباطها كلّ من علمَي (النحو والدلالة)، ويلتقي في ميدان البحث فيها أجيال (من العلماء من القدماء والمحدثين)، في محاولاتهم الإنسانية لفقه كلام خالق الإنسان، ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱬ ﱭ ﱮ ﭐ ﱯ ﱰ ﱱ ﱠ [سورة الرحمن: الآية 3].
وحسبهم من الوصول لهذا الفهم غايتهم من الطريق، ﭧﭐﭨﭐﱡ ﱦ ﱧ ﱠ [سورة ص: الآية 29]، خدمة للقرآن الكريم من خلال محاولة فهمه وتفهيمه.