منذ أن خطّ الرحالةُ الأوائل أسفارهم في بطون الكتب، ظلّ أدب الرحلة نافذةً كبرى على العالم، يجمع بين المعرفة والمتعة، وبين التاريخ والسرد، وبين وصف المكان وبوح الإنسان. فهو ليس مجرّد تسجيلٍ للطرقات والمسافات، بل هو حكاية الروح وهي تعبر البحار والجبال، وتواجه الغربة والاندهاش، لتعود محمّلةً بما لم يكن معروفًا من عادات الشعوب وتفاصيل الحياة وصور المدن والحواضر.
لقد أبدع الأدباء العرب، من ابن بطوطة وابن جبير إلى المسعودي والشريف الإدريسي، في صياغة أدب الرحلة كفنّ أصيل يمزج الوصف الجغرافي بالخيال الأدبي، ويوثق أنماط العيش والتقاليد، حتى أصبح هذا الأدب موسوعة حيّة للذاكرة الإنسانية. فهو يحفظ ما تلاشى من صور الماضي، وينقل إلينا نبض الحياة في أسواق دمشق، وبيوت فاس، وموانئ الإسكندرية، وصحراء الجزيرة العربية.
واليوم، ومع احتفاء معهد الشارقة للتراث بـ اليوبيل الفضي لملتقى الشارقة الدولي للراوي (2001 – 2025) في دورته الخامسة والعشرين، يأتي اختيار شعار "حكايات الرحالة" ليُعيد لهذا الفن العربي العريق تألقه، ويُبرز مكانته بوصفه مرآةً لرحلة الإنسان في الزمان والمكان. فقد ظلّ الملتقى، على مدى ربع قرن، منصّةً لتكريم الرواة وحملة التراث وحُرّاس الذاكرة، حتى بلغ عدد من احتفى بهم أكثر من 300 راوٍ وراوية من الإمارات والخليج والوطن العربي والعالم.
إن تخصيص هذه الدورة لأدب الرحلة يعكس وعي المعهد بأهمية هذا الفن في حفظ الذاكرة وتوسيع آفاق المعرفة، ويضفي على البرامج المصاحبة للملتقى ثراءً في المضمون وتنوّعًا في التجارب، ليمتزج السرد الشعبي بالحكاية الإنسانية، وتلتقي الطرقات المختلفة في حكاية واحدة: حكاية الإنسان الباحث عن الدهشة والاكتشاف.
فالرحلة ليست مجرد مسافة تقطعها الأقدام، بل مسافة يقطعها القلب في سعيه لفهم العالم، وهو ما يجعل أدب الرحلة تراثًا حيًّا، ومعهد الشارقة للتراث شاهدًا على استمراره وتجديده عبر الزمن.