في ضوء التغير المناخي الذي يشهده العالم، يظهر النداء بوضوح بأهمية المحافظة على البيئة ومكوناتها من هواء، وماء، وتربة وغيرها، واتخاذ التدابير اللازمة من قبل المجتمع الدولي للتقليل من المخاطر التي باتت تهدد صلاحية بيئة الإنسان للحياة، وصعوبة التكييف مع ظروفها الجديدة في ظل الاختلال الذي طرأ على التوازن البيئي الذي أوجبتها السُنن الإلهية للتمثيل الطبيعي لجميع عناصره من أكسجين، وكربون، ونيتروجين وغيرها من مقومات الحياة البشرية على هذا الكون، بل وتمثل ركيزة أساسية للوجود البشري وفق السُنن الكونية التي جعلته صالحاً للحياة فيه، قال تعالى: "(هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود: آية 61]".
وهذا يستلزم منا المحافظة على النظام البيئي وفق تلك السُنن، وعدم العبث به حتى لا يؤول الأمر بالنقض والإفساد عليه، ومقتضى هذا اللزوم نرى أن التوازن البيئي مدرك أساسي من مدارك المقاصد الشرعية التي ترع النظام البيئي بموارده المختلفة على نحو يكفل تحقيق مصالح البشرية المتنوعة، وسبل العيش السوية التي تستقيم معها الحياة، وتستقر ظروف بيئة الإنسان، وتتحصل عندئذ الغاية المرجوة من استخلافه في الأرض، قال صلى الله عليه وسلم:"إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون"(رواه مسلم).
وفي ذلك إفادة واضحة أن مسؤولية المحافظة على البيئة هو الإنسان، وأن محور اعتناء المقاصد الشرعية هو الإنسان، والتي مدارها على جلب المصالح، ودفع المفاسد عنه.
ومن هنا أعطت المقاصد الشرعية اهتماماً بالغاً بالنظام البيئي من خلال الأحكام الشرعية التي وردت في تنظيم العلاقة بالبيئة، بغية المحافظة على ديمومتها حتى تدوم منافعها للبشرية -ما إن التزم بذلك-، والابتعاد عن خرم السُنن التي تجري وفقها.
وللعلاقة الوثيقة بين الإنسان وبيئته برزت وسائل حفظها، ومنع إفسادها بصورة جلية في المقاصد الشرعية، وذلك من جانبين:
الأول: حفظها من جهة الوجود؛ فقد وردت العديد من النصوص التي تحث على هذا الجانب المقاصدي، وتشجع عليه من مثل الحث على النظافة، والطهارة، والتعمير، والبناء، والتشجير وإنشاء الحدائق الخضراء، ومكافحة التصحر، قال صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً؛ فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة إلا كان له به صدقة"(رواه البخاري)، وحثها كذلك على إحياء الموات واستثماره واستغلاله بما يعود بالنفع على الفرد والمجتمع، والمحافظة على الموارد الطبيعية وتوزيعها الأمثل بما يحقق استدامتها، والإبقاء على منافعها.
الثاني: حفظها من جهة العدم؛ فقد وردت جملة من النصوص الشرعية التي تمنع كل ما يؤدي إلى إفساد النظام البيئي، والإخلال بتوازنه من استنزاف مصادره وتلويثها؛ فجاءت الأحكام التي تحرم الإتلاف للنبات أو الحيوان دون وجه حق، قال صلى الله عليه وسلم: "من قطع سدرة صوّب الله رأسه في النار"(رواه أبو داود)، وتحريم الإسراف في المأكل والمشرب-الإسراف في الاستهلاك-، قال تعالى: "(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا) [الأعراف: آية 31]"، ومنع هدر الموارد الطبيعية، وتلويث مصادرها، قال صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل"(رواه أبو داود)، وغير ذلك من موارد النهي التي توجب الإفساد والإخلال بالنظام البيئي، وجماعها في قوله تعالى: "(وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) [الأعراف: آية 56]".
لذلك، يهدف ذلك إلى تحقيق توازن واضح بين الإنسان والبيئة التي يسكنها، وتحويلها إلى بيئة صالحة للحياة. هدفنا هو توفير سبل العيش الكريم وتحقيق الاستدامة في استخدام مختلف مواردنا، والبعد بها عن مخاطر التغيير الجائر الذي يحدثه الإنسان في عناصرها ومقوماتها الأساسية التي تفسد صلاحيتها للحياة عند وقوعه، أو تزداد صعوبة العيش في ظله، فكان من المقرر وفق ما ذكر من مقاصد في هذا الباب وغيرها أن المحافظة على البيئة واجب شرعي على الجميع، يتطلب النهوض به دون استثناء، إقامة للواجب في كافة مجالاته البيئية، وهو تكليف يتطلب جملة من الإجراءات التي تستلزم بطبيعة الحال إيجاد ثقافة بيئية عند الجيل تصنع صداقة متلازمة مع بيئته، ومن ذلك:
- التوعية بأهمية البيئة للإنسان، وخطورة التلوث بأنواعه في المؤسسات التعليمية من مدارس ومعاهد وجامعات، ومؤسسات المجتمع المدني المختلفة.
-خلق بيئة مستدامة للجيل الحالي، والجيل القادم من خلال تنمية حس المسؤولية المجتمعية عند الأفراد، والمؤسسات.
-التوجيه نحو الاستخدام الأمثل للموارد، وترشيد الاستهلاك عند الأفراد بما يفي بحاجاتهم دون إسراف ولا تبذير.
-التوجيه نحو استعمال الأشياء التي تعد صديقة للبيئة في كافة مجالات الحياة المختلفة.
وانطلاقاً من شعار "نحن أصدقاء للبيئة"، فإن الثقافة البيئة أصبحت من متطلبات الحياة المعاصرة التي لا يستغني عنها في سلوكياتنا الحياتية في كافة أنشطتنا وأعمالنا، في ظل التغيرات التي نشهدها والتي تطرأ على كوكبنا وتهدد نظامه البيئي.