جار التحميل...

mosque
partly-cloudy
°C,

حياة البرزخ من ناحية فلسفية

09 أكتوبر 2025 / 10:25 AM
حياة البرزخ من ناحية فلسفية
download-img
إن البرزخ في الفكر الإسلامي، هو مرحلة فاصلة بين الحياة الدنيا والآخرة، لكنه لا يُفهم فقط كمكان أو فترة زمنية، بل يُنظر إليه فلسفيًا كحالة وجودية وروحية تتجاوز الحواس والمادة، ويمثل البرزخ مرحلة ينسحب فيها الوعي من التفاعل مع العالم المادي، لينتقل إلى تجربة أعمق من الوعي الروحي المتصل بجوهر النفس والكون.
 ويُقدّم المفكرون المسلمون، مثل ابن عربي البرزخ كعالم بيني "بين السماء والأرض"، ويتميز بتعدد أبعاده، حيث تتفاعل الأرواح مع حقائق تتجاوز الإدراك الحسي، أما الغزالي، فيراه كعالم "الخلق الخفي" الذي تبدأ فيه النفس رحلتها نحو القرب الإلهي، مبتعدة عن قيود الجسد والمادة.

وهذا الفهم يتقاطع مع رؤى فلسفية غربية قديمة وحديثة، فأفلاطون تحدث عن "العالم المثالي"، الذي تتواجد فيه الأشكال الثابتة والكاملة، وهي تجربة شبيهة بما تعيشه النفس في البرزخ من تحرر من الزمن والمكان، أما في الفلسفة الحديثة، فكارل يونغ رأى في اللاوعي الجمعي حالة من الارتباط بين البشر من خلال رموز وأفكار خالدة، تُشبه تجربة النفس في البرزخ كحالة وعي كونية.

بينما الأدب الصوفي يضيف بعدًا وجدانيًا عميقًا لتجربة البرزخ، فهو يمزج بين الألم والسكينة، بين الفناء والتجلي. يقول الحلاج في أحد أبياته:
"أموت وأحيا بين الحب والهلاك.
في البرزخ أسير، بين شوق وألم بلا قرار."

وهذه الحالة تعكس التوتر بين العذاب الروحي والتطلع للاتحاد بالحقيقة الإلهية، وهو مضمون حاضر في العديد من التجارب الصوفية. كما أن الأدب المعاصر، مثل شعر محمود درويش، يتناول البرزخ بلغة فلسفية وشاعرية، إذ يقول في "في حضرة الغياب":
"ليس في الموت لحظة واحدة،
بل موتٌ لا يموت.
وحياةٌ تبدأ حين تنتهي."

وهذا التصور يعبّر عن استمرارية الوعي بعد الموت، ويحول البرزخ من نهاية إلى تحول وبداية جديدة، وأن الثقافات الأخرى قدّمت مفاهيم مشابهة، ففي الفلسفة الهندوسية والبوذية، هناك مفاهيم كالـ"ليمبو" أو "عالم الظل"، وهي مراحل انتقالية للنفس تُشبه البرزخ، حيث تستعد الروح للولادة الجديدة أو التحرر النهائي، وهذه الرؤى تؤكد على أن الوجود ليس خطيًا بل دائري ومتعدد الأبعاد.

أما من منظور العلوم الحديثة، فتجارب الاقتراب من الموت (NDEs) تفتح آفاقًا جديدة لفهم البرزخ، فالأشخاص الذين مروا بهذه التجارب تحدثوا عن وعي خارج الجسد، ونور أبيض، وشعور عميق بالسلام، فالطبيب ريموند مودي جمع شهادات من ثقافات متعددة حول هذه الظاهرة، مما يدعم وجود تجربة إنسانية عالمية قد تتوافق مع فكرة البرزخ كحالة وعي بعد الموت. 

والزمن في البرزخ لا يخضع لقوانين الفيزياء المعروفة، فهو زمن غير خطي، بل ربما زمن روحي أبدي لا يُقاس بالساعات، مما يدعو إلى إعادة التفكير في طبيعة الزمن وعلاقته بالوعي والوجود.

وفي الختام، البرزخ ليس مرحلة عابرة فحسب، بل هو حالة فلسفية وروحية تكشف أبعادًا خفية من الوعي والكينونة، وهو جسر بين العوالم، ومجال للتجلي والاختبار، حيث تتلاقى النفس مع حقيقتها العميقة، وتستعد للانتقال نحو الحقيقة العليا، وأن فهم البرزخ من هذا المنظور يمنح الإنسان فرصة للتأمل في جوهره، ويحفزه على البحث عن المعنى الحقيقي للوجود، متجاوزًا المادي إلى الروحي، والعابر إلى الأبدي.
October 09, 2025 / 10:25 AM

الكلمات المفتاحية

أخبار ذات صلة

Rotate For an optimal experience, please
rotate your device to portrait mode.