إن الإيجابية جزء لا ينفك عن قيم الشرع وأحكامه، وأصل وجوده – المكلف- الذي اتسم بغاية نبيلة أنيطت به من إعمار الكون الذي لا يتحقق إلا بالعمل الجاد في هذه الحياة، والذي يتطلب طاقات إيجابية من المكلفين حتى تتحقق تلك الغاية على وجهها الأكمل من بناء، وإنجاز، وتحصيل لمصالح العباد في كافة مجالات الحياة.
وهذا أمر مخاطب به المسلم أصالة على اعتبار أن الأصل من خلقه هو العبادة، وما العمل من أجل إعمار الكون إلا جزء من تلك العبادة التي كلّف بها في الوجود الدنيوي، وهذا برهان على أن الإيجابية جزء من حياة الفرد لا تنفك عن تعامله المستمر في كل أمر من أمور الحياة من خلال السلوك الإيجابي الفعال الذي يؤدي إلى تحقيق متطلبات البناء، والتقدم للمجتمعات، لا السلوك السلبي الذي يؤدي إلى الهدم، وعدم التقدم والرقي الذي تطمح إليه المجتمعات في كافة مجالات الحياة.
ومما يفيد ذلك، أن النظر إلى الإيجابية في الشريعة الإسلامية لا يكون إلا من خلال منهج متكامل من الفرد سواء أكان في علاقته مع نفسه، أم مع غيره في كل موقف، أو عمل وفق أعلى المعايير الشرعية المرسومة في نصوص القرآن والسنة في ضبط سلوك الإنسان في الوجود الإنساني والذي يهدف إلى فاعليته في بناء مجتمعه، والمساهمة في تطوره إلى أبعد مدى ضمن قدراته العلمية، والعملية، واختصاصه المهني، ومهاراته الفنية.
وهذا أمر يتطلب تحصيل دوافعه الإيمانية- كما تم تأصيله أعلاه- في النفس ابتداء حتى تحدد أطر سيره في كل عمل يقوم به في خدمة مجتمعه على مختلف مستوياته، مع مراعاة دوافعه الشخصية التي تعود عليه بالرضا عن ذاته، وشعوره بالإنجاز، والإحساس بالاحترام والمكانة المرموقة في المجتمع من خلال الوفاء بالالتزامات التي أوجبها عليه موقعه الوظيفي-العام-، أو عمله الخاص، لأن الشخص الذي يتحلى بالإيجابية يبتكر تلكم الوسائل والطرائق التي تؤدي إلى اتقان عمله، وإنجازه على درجة عالية من الجودة.
وإذ أصل الإيجابية مستقر في النصوص الشرعية من القرآن الكريم، والسنة النبوية -بل إن شواهدها في الشرع الحنيف لا تعدّ ولا تحصى- فكل الدين الإسلامي قائم في أصله على الإيجابية في التعامل مع مجريات الحياة على مختلف مستوياتها ورتبها، ومن تلك النصوص التي تشهدها لها بالاعتبار قوله تعالى:" لا خير في كثير من نجواهم إلاّ من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً"[النساء:114]،وقوله تعالى:" إنهم كانوا يسارعون في الخيرات"[الأنبياء:90]، وقوله تعالى: “ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين"[آل عمران:114]، والكثير من النصوص الدالة على دلالات الإيجابية في منطوقها ومفهومها.
أما دلالاتها في السنة، فمنها قوله -صلى الله عليه وسلم-:(المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)[رواه البخاري]، وقوله صلى الله عليه وسلم:(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً، أو ليصمت)[رواه البخاري]، وقوله صلى الله عليه وسلم:(ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة إلا كان له به صدقة)[رواه مسلم]، وقوله صلى الله عليه وسلم:(إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فليغرسها)[رواه أحمد]، وقوله صلى الله عليه وسلم:( من استطاع منكم أن ينفع أخاه، فليفعل)[رواه مسلم]، وقوله صلى الله عليه وسلم:( لا تحقرنّ من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)[رواه مسلم].
وكذلك الكثير من النصوص التي لا يتسع المقام إلى ذكرها تبين عمق دلالات الإيجابية في الشرع، وأنه مطلوب أصالة من المكلفين في بناء السلوك الإنساني الإيجابي في التعامل مع كل موجودات الكون بحسب طاقة كل واحد بما يحقق دوره الإنساني بكل اعتزاز وافتخار.
وإذا تحقق الامتثال إلى مقتضى هذه النصوص وغيرها، فإن الأثر يظهر بشكل رئيس في البناء الحضاري للمجتمع بما يشهده من تقدم وتطور في كافة مجالات الحياة فيه من خلال ما توفر الإيجابية من إبداعات وابتكارات خلّاقة تدفع إلى تحقيق الإنجاز الذي ينهض بالمجتمع إلى أعلى درجات الرقي.
وأما ما ينعكس من آثار- على المستوى المعنوي- على المجتمع والأفراد، فلا حد له، فترى منها ثقافة التسامح والمحبة بين أفراد المجتمع، وسيادة التعاون والمساعدة بين الجميع، والتسابق في فعل الخيرات، والعمل بروح الفريق الواحد- العمل الجماعي-، التعزيز والتشجيع من الآخرين، وكل قيمة نبيلة يسعى إليها من يتسم بهذه الصفة.