يتناول هذا المقال العلاقة المعقدة بين الوراثة والقدر، وكيف يتفاعل الإنسان مع ما يرثه من جينات وبين ما يختاره من قرارات بيئية واجتماعية، في ضوء الرؤية العلمية والفلسفية والدينية، فيتساءل النص عن مدى تحكم الجينات أو القضاء والقدر في مصير الإنسان، وهل للإنسان حرية في تغيير مساره؟ أم أنه محكوم بما لا يملك تغييره؟
إنّ علم الوراثة الحديث يؤكد أن الجينات تشكل قاعدة أساسية تحدد الكثير من صفات الإنسان الجسدية، والنفسية، بما فيها الاستعداد لأمراض معينة مثل السكري أو السرطان، ومع ذلك، لا تتجلى هذه الصفات بالضرورة، لأن البيئة تلعب دورًا محوريًا في كيفية تعبير الجينات، فمثلاً، شخص لديه استعداد وراثي للسكري قد يتجنب الإصابة إذا اتبع نمط حياة صحّي، ومن هنا يظهر التفاعل بين "القدر البيولوجي" و"القرار البيئي"، وهو ما يشبه في الفلسفة الجدل بين الحتمية والإرادة الحرة.
ومن منظور ديني، يُعتبر القدر أحد الركائز العقائدية في الإسلام، كل شيء مقدّر بإرادة الله، ومع ذلك يُمنح الإنسان حرية السعي، واتخاذ القرار، كما تظهر في قصص الأنبياء مثل يوسف عليه السلام، وكذلك في المسيحية، نجد عقيدة "التدبير الإلهي" التي تجمع بين سيادة الله ومسؤولية الإنسان، وفي البوذية والهندوسية، تلعب الكارما دورًا في تحديد المصير من خلال الأفعال السابقة والحالية، مما يجمع بين الحتمية والاختيار.
أما فلسفيًا، فلقد قدم أفلاطون وأرسطو تصورًا عن عالم منظم بقوانين ثابتة، يتيح ضمنها قدرًا من الحرية، وفي العصر الحديث، رأى ديفيد هيوم أن السببية ليست مطلقة بل احتمالية، ما يمنح مساحة للاختيار، وأما سارتر، فذهب أبعد من ذلك، معتبرًا الإنسان "محكومًا عليه بالحرية"، ومسؤولًا عن صنع مستقبله، حتى في ظل قيود الواقع.
والبيئة بدورها تشكل عاملاً حاسمًا، فهي تضم الأوضاع الاجتماعية، والاقتصادية، والتعليمية والصحية، فالفرد قد يرث استعدادًا لمرضٍ ما، لكن بيئته قد تحفّزه على التغلب عليه، كما أظهرت دراسات علم النفس في تأثير الدعم الاجتماعي والتعليم على تجاوز الصعوبات الوراثية.
وتتدخل التكنولوجيا الحديثة في هذا الحوار بين الوراثة والقدر، من خلال أدوات مثل تقنية CRISPR-Cas9 التي تتيح تعديل الجينات لتفادي الأمراض، وهذا يفتح الباب لتوجيه المصير البيولوجي، لكنه يثير تساؤلات أخلاقية ودينية حول حدود التدخل البشري في الخلق، كما بدأت بعض المجتمعات في استخدام الفحوصات الجينية كأداة للوقاية، ما يجعل القرار البيئي أكثر فاعلية وتأثيرًا على مصير الإنسان.
إن الواقع يعج بقصص توضح التفاعل بين القدر والاختيار، فهناك من ورث جينات خطرة وتمكن من تجاوزها بفضل الوعي والسلوك السليم، وهناك من تحدى ظروف اجتماعية صعبة ونجح في إعادة تشكيل مصيره، وهذه التجارب تظهر أن القبول بالقدر لا يعني الاستسلام، بل السعي داخل حدوده، كما جاء في الحديث النبوي: "اعقلها وتوكل".
وفي الختام، الوراثة تمثل جانبًا من القدر البيولوجي، أما القرارات البيئية والسلوكيات الفردية فتمثل مجالًا للحرية والإبداع البشري، والفهم المتوازن لهذه العلاقة يعكس تفاعلًا حيًا بين العلم والدين والفلسفة، ويحث الإنسان على البحث عن المعنى ضمن ما كُتب له وما يختاره بنفسه، ويظل سؤال التوازن بين الوراثة والقدر والاختيار مفتوحًا، ويستمر في تحفيز الفكر الإنساني عبر العصور.