إن التذكرة الأولى لقارئ آيات وسور القرآن الكريم ممثلة بما حوته من مضامين عديدة؛ فهي تذكرك بالإيمان بالله وأسمائه وصفاته، وبالصراط والشفاعة، وبالبعث والنشور وأهوال يوم القيامة، وبالجنة والنار، وبالنبيين وقصصهم مع أقوامهم، وبأحكام الصلاة والصيام والزكاة والحج ونحو ذلك من أحكام العبادات الأخرى والمعاملات المالية والأسرية وغيرها، وبالقيم الأخلاقية ونحو ذلك من المضامين الأخرى، قال تعالى واصفًا كتابه: ﴿وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ٤٨﴾ [الحاقة: 48].
أما التذكرات الأخرى للقرآن الكريم فكثيرة؛ تُمَثّلُ إحداها بتذكّر الأحباب عند تلاوتنا لآيات أو سور من القرآن الكريم، وهم صفوة من الذين مروا في ذاكرتنا خلال فترَتَيْ طفولتنا ويَفَاعَتِنَا، فنترحم عليهم إذا كانوا أمواتًا، وندعو لهم بالعفو والعافية إذا كانوا أحياءً، ونجمع بين الأمرين إذا جهلنا حالهم.
وإنّ ذكريات فتْرَتَيِ الطفولة واليَفَاعَة تصحب الإنسان طيلة حياته، ولا تكاد تتركه حتى وفاته، بخلاف الذكريات التي تعقبهما في فترة ريعان الشباب وما يعقبها، فقد ينساها، وقد يجد صعوبة في تذكرها، وقد أمضيت فترتًيْ طفولتي ويَفَاعَتي في بيئة ريفية زراعية بسيطة؛ ولدت فيها، ونشأت في أكنافها، وتربيت في أحضان صفوة من أهلها؛ الذين رحل معظمهم إلى الله تعالى ، لكن يذكِّرُنِي بهم القرآن الكريم حين أتلو أو أسمع آياته ، وسبب التذكرة موقف جمعني بأحدهم مع آية من آياته، أو سورة من سوره، وتتكرر تلك التذكرة بتكرار تلاوة تلك الآيات والسور، وبمرور الأيام والأشهر والسنين من الزمن.
ومن هؤلاء والدي رحمه الله تعالى؛ فقد كان رجلًا بسيطًا يقرأ القرآن الكريم بدرجة مقبولة ليس غير؛ وكان مصدر سماعي الأول لآياتٍ منه؛ سواءً أكان ذلك في الصلاة الجهرية، أو كان في ذِكْرِهِ لآية عند موقف معيّن يمرّ معه يتذكر فيه الرحيل إلى الله تعالى والوقوف بين يديه للحساب؛ كقوله تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا١٣ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا١٤﴾ [الإسراء: 13-14] ، أو يذكر فيه عدم الانتفاع بالنّسَب يوم القيامة كما في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ٩٩ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ١٠٠ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ١٠١﴾ [المؤمنون: 99-101] ، وغير ذلك من الآيات العديدة التي كان يذكرها، فكلما قرأتُ ما كنت أسمع منه، يحضر شخصه أمامي، فأزيد من الترحم عليه.
ومنهم والدتي رحمها الله؛ التي كانت امرأة بسيطةً أمّيّةً لا تقرأ ولا تكتب، لكنها حفظت قصار السور سماعًا، وكانت تقرأها في صلواتها الخمس، ومما حفظته سماعًا من جدّي – والد أبي - رحمه الله أوائل آيات سورة الفتح : ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا١ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا٢ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا٣ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا٤﴾ [الفتح: 1-4]؛ حيث كان يتلوها في الصلوات الجهرية، وكانت تقرأها بلغة ركيكة لا تخلو من أخطاء، وأذكر مرة أني كنت أقرأ على مسمعها سورة يوسف؛ فكانت تقصها عليّ؛ لأنها سمعتها منه، وكلما قرأت سورة يوسف وأوائل سورة الفتح، يحضر شخصها أمامي، فأزيد من الترحم عليها.
ومن هؤلاء أيضًا أبناء عمومة لي؛ منهم الحاج صدِّيق رحمه الله؛ الذي كان إمامًا في مسجد قريتي الوحيد والبسيط خلال حياته لمدة قاربت 20 سنة تقريبًا؛ حيث كان خطيبًا وإمامًا في الصلوات الخمس دون أن يمتلك أي شهادة علمية، وكان كثيراً ما يقرأ بسورة طه والكهف ويس والملك وغيرها من آيات وسور القرآن العظيم، ومشى ابنه الكبير الحاج محمد رحمه الله على خطواته في إمامة الصلوات لمدة قاربت 10 أعوام ، وكان صاحب حرفة يعتاش منها ولا يمتلك أي شهادة عليمة، وكان إذا قرأ؛ فإذا به وكأنه والده صوتًا وخشوعًا ومضمونًا، وعندما أقرأ أو أسمع ما كانا يقرآنه في الصلوات الجهرية في المسجد، أتذكرهما وأترحم عليهما.
ومنهم الحاج سعد رحمه الله؛ الذي كان خطيبًا وإمامًا لمدة قاربت 20 سنة دون أن يحمل أي شهادة علمية، وبدأ بعد الـ 50 من عمره بملازمة أحد شيوخ البعثة الأزهرية المصرية في قرية قريبة من قريتنا، والتي كانت تنشر ثقافة العلوم الشرعية التي كان ينشرها الأزهر الشريف في مصر الحبيبة في العديد من الدول؛ ومنها لبنان، وكان إمام مسجده الذي تبرع بأرضه قرب بيته، وكان يقرأ من مواطن متفرقة من سور القرآن الكريم؛ من البقرة وآل عمران والحج والأحزاب ويونس والإسراء وسور أخرى، وعند قراءتي لما كان يقرأه في الصلوات الجهرية، فيستحيل علي إلا أن أكون مترحماً عليه.
أما خاتمتهم فإنه الحاج أحمد مطر أمدّ الله له في عمره وختم له بالحسنى، والذي قارب الـ 90 من عمره، وقد امتلك معظم أحكام التلاوة باجتهاد شخصي، ومازال حتى تاريخه يؤم في صلاتي العشاء والتراويح – أحيانًا - في المسجد الكبير في قريتي، وقد صليت وراءه مدة قاربت السنوات الـ 10، فكان يقرأ من معظم سور القرآن الكريم بصوت جهوري عذب يخطف قلبك قبل سمعك، ويستحيل على من صلى خلفه سابقًا عند تلاوته في مصحفه إلا أن يكون له داعيًا، عندما يمر على الآيات أو السور التي تذكره به.
وهكذا فكلما تذكرنا آية سمعناها من زميل أو طالب علم أو نحو ذلك ممن جمعتنا بهم الأقدار خلال تلاوة تلك الآية أو سماعها، أدى ذلك إلى الترحم عليهم إذا كانوا أمواتًا، أو الدعاء لهم إذا كانوا أحياءً.
حقًّا إنها تذكرة مهمة من تَذْكِرَاتِ القرآن الكريم التي تتكرر بمرور الزمن؛ خصوصًا خلال شهر رمضان المبارك الذي يكثر فيه الناس من ختمات تلاوة القرآن الكريم، ومع كل ختمة من تلك الختمات تكون تلك الذكريات لأحبة رحلوا إلى الله أو في انتظار الرحيل، فنترحم عليهم أو ندعو لهم، ونسأل الله تعالى لهم الفردوس الأعلى مع سيدنا ونور أبصارنا وقرة أعيننا حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم.
ويمكن القول في ختام هذه الإضاءة، بأن الله سبحانه وتعالى أكرمنا بتلاوة آياته، وتذكر أحباب لنا من خلقه كانت لنا محطات معهم في ربوع آياته، فسخّرَنَا بالدعاء لهم أو بالترحم عليهم، واللهَ نسأل أن يكرمنا بمثل تلك المحطات مع أحباب من خلقه؛ يترحمون علينا عندما نغادر الدور، ونسكن القبور، ونترك الأحباب، ويهجرنا الأهل والأولاد، وعندما يكون فرشنا التراب، وننتظر قدوم يوم الحساب، فتأتينا تلك الدعوات الصالحات، لتكون من أسباب دخول الجنات، وصحبة خير الأنام سيدنا محمد عليه أزكى صلاة وأتمّ سلام.