فإنّ المُتأمّل في حال الناس وقربهم من الله تعالى، يجدهم بين إقبالٍ على ربهم والتزام الجادّة في الاستقامة، أوإدبارٍ لا يزيدُهم إلا إغراقًا في المنكرات، وتوحّلاً في الشهوات، وهناك صنفٌ ثالثٌ تجده يتردد بين الإقبال والإدبار، ولا يثبت على حال، حتى إذا التزم الجادة في محطات من عمره، حاد عنها في محطات أخرى، وهنا لا بد من وقفةٍ حاسمة مع النفس، ومراجعة لخريطةِ المسير؛ لاستعادةِ البوصلة المفقودةِ، وإنّ من كرم الله وإحسانه ورحمته أن يُرسل نفحاته جوّادةً سخيَّةً، فيُسْعد عباده بلحظات حاسمة في حياتهم لك أن تسميها: (لحظة صفاء)، أو (فرحة عُـمُر)، أو (فرحة عودة)، وها هي رحمة الله تعالى تداركت يوسف عليه السلام فمكنته من الغلبة على داعي الشهوة، واستدفاع الشر، فقال غير هيّاب ولا وجِل لامرأة العزيز: ﴿ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [سورة يوسف: آية 23 ].
بل إن امرأة العزيز كانت لها وقفة حاسمة مع نفسها في نهاية المطاف، فأقرّت ببراءة يوسف عليه السلام: ﴿الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ۞ ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ۞ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [ سورة يوسف: آية 51 - 53 ].
وفي غزوة تبوك تخلّف عنها الثلاثة بغير عذر وهم: كعب بن مالك، ومُرارة بن الربيع، وهلال بن أمية رضي الله عنهم، فواتتهم لحظة صفاء وجلاء، أقروا فيها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تخلفهم عن الغزوة لم يكن من عذر، فصدقوا في حديثهم من غير إدهان، مع قيام مناسبته وإغراء الموقف به، يقول كعب: (وطفقتُ أتذكر الكذب، فأقول: بم أخرج من سخطه غداً) - يعني رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ وترك المسلمون هؤلاء الثلاثة، فلم يكلموهم أو يُسلموا عليهم، حتى اشتد ذلك عليهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وظلوا على تلك الحال خمسين يوماً، حتى نزل القرآن الكريم مبشِّراً: كعب، وهلال، ومرارة، بقبول الله توبتهم ورضاه عنهم، فنزل فيهم قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [ سورة التوبة: آية 118 ]؛ فَـسُـرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبول توبتهم واستنار وجهه؛ حتى كأنه قطعة قمر! وطفق الناس يهنئونهم بالتوبة ( ).
ومن عِبر هذه القصة أن الصدق - وإن شقَّ على النفس أحياناً - فعاقبته إلى خير، وما أقبل عبدٌ بقلبه إلى الله تعالى، إلا أقبل الله بقلوب خلقه إليه؛ فأحبه أهل الملأ الأعلى والملأ الأدنى.. وهذا أُسَيْد بن الحُضَير بن سماك الأوسي من أشراف العرب وزعماء المدينة.. بدأت قصة إسلامه، عندما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير إلى المدينة ليعلِّم ويفقه المسلمين من الأنصار، وليدعوَ غيرهم إلى دين الله تعالى، فحمل أسَيد حربته، وذهب إلى مصعب الذي كان في ضيافة أسعد بن زرارة من زعماء المدينة الذين سبقوا إلى الإسلام، وعند مجلس مصعب وأسعد بن زرارة، رأى أسيد جمهرة من الناس تصغي في شغفٍ وتلهّف لكلمات مصعب الداعيات إلى طريق الله تعالى، ففاجأهم أسيد بغضبه وثورته، فقال له مصعب: هل لك في أن تجلس فتسمع، فإنْ رضيتَ أمرَنا قَبِلته، وإن كرهتَه كفَفْنا عنك ما تكره، فقال أسيد: هات ما عندك، وراح مصعب يقرأ القرآن الكريم، ويشرح مبادئ الإسلام، فبدأ قلب أسيد يرق ووجهه يستشرق، فقال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله، كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ فقال مصعب: تطهر بدنك، وثوبك، وتشهد شهادة الحق، ثم تصلي، فقام ليستقبل الإسلام فاغتسل وتطهر، ثم سجد لله رب العالمين معلنًا إسلامه، وعُرف أسيد بصوته العذب وهو يرتل القرآن الكريم، فقد كان أحسن الناس صوتاً( )، فكانت هذه لحظة صفاء حاسمة اغتسلت فيها روح أسيد من أدرانها، وأقبلت على نور خالقها.
وهذا "زاذان الكِنْدي" كان نديَّ الصوت، وكان بعض الفتيان يشربون الخمر ويجتمعون حوله وهو يُغنّي، فلما رأى ابن مسعود هذا المنظر قال له: ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله تعالى، ثم مضى ابن مسعود وتركهم، فسأل زاذان الناس: من هذا؟ فقالوا: عبد الله بن مسعود، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل: وأي شيء قال؟، قالوا: إنه قال: ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله تعالى، فأسرع زاذان، ولحق بابن مسعود، وظل يبكي، ويعلن توبته إلى الله سبحانه، ورجوعه عن الغناء ومجالس الخمر، فاحتضنه عبد الله بن مسعود، وبكى هو الآخر، ثم قال: كيف لا أحب من قد أحبه الله تعالى؟! فتاب إلى الله عز وجل من ذنوبه، وكانت تلك لحظة صفاء لزاذان مُتوّجَة بغُـرَرِ التوبة والانقياد لله جلّ جلاله، وظل زاذان ملازماً لابن مسعود حتى تعلم القرآن الكريم وحفظه، وتضلع من علوم الدين، وروى الحديث عن ابن مسعود وغيره من الصحابة؛ حتى عُقدت له الإمامة في العلم( ).
أحداثٌ تترى.. وقصص تفيض العين من عِبرها! فأين وقفتُك مع الله تعالى؟ وأين لحظة صفائك؟ ووقت أوبتِك؟ أين لحظتُـك التي اطلع الله تعالى فيها على قلبك، فرأى ما يحبه، فأصابك برحمة منه سبحانه: أشرقت بها نفسك، وتَضَـوّأت سريرتك، وازْدَهَت صحيفةُ أعمالك، فقلت بعدها بلسان الحال والمقال:"وافرحتاه"!؟، أين اللحظة التي تفيض فيها العين في الخلوات خشية من الله تعالى؟، أين اللحظة التي تَصرَع فيها هواك، فتطيعُ غير عاصٍ، وتبَـرُّ غير عاقٍ، وتجودُ غير ضنين؟، لكن لحظات الصفاء والجلاء لا بُدّ من أن يُحْكَم لها المركب، ويُعدّ لها الزاد، فأكثر من إظهار انكسارك أيها العبد على عتبات خالقك، وأدمن طَرْق الأبواب، فالاستجابة محققة بإذن الله: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ [ سورة الأنفال: آية 9 ] ولا تدري من أين توافيكَ فرحة عمر، أو هدية سعدٍ، وعطاءُ ربك غير مجذوذ.
وتذكّـر أيها المُوفـق أن في القلب وَحْشةً لا يزيلها إلا الأنس بالله سبحانه، وحُزْنًا لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وشَعَثًـا( ) لا يَـلُـمُّه إلا الإقبال عليه والتلذذ بمناجاته، وقلقًا لا يُسَكِّـنُهُ إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، ونيرانَ حسرات لا يُطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، وفاقةً( ) لا يَسُدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، ولو أُعطي العبدُ الدنيا وما فيها لم تُسدَّ تلك الفاقة منه أبدًا( )؛ فإن شعور المؤمن بمعيّة الله وصحبته دائمًا يجعله في أنس دائم بربه، ونعيم موصول بقربه، وهذا هو عين التوحيد، ورأس هرَم العقيدة، ونُخاع الإيمان.
فاللهَ اللهَ في سعيك للحظتك الحاسمة وفرحة عمرك، فإن من يَجْـثُو أمام باب ربّ الأرباب لم يَـبْرح حتى تُـفتح له الأبواب، فهنيئاً ثم هنيئاً لعبدٍ فتح الله تعالى له باب الوُلوج عليه، والأنس به، فورّث في قلبه حلاوة ما بعدها حلاوة، وذلك فضل الله يُؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.