أرسل الله تعالى رسوله محمداً ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ رحمةً للعالمين، ومن مظاهر تلك الرحمة، أن يدل الخلق على طريق السعادة في دنياهم وأخراهم؛ لذا نجد الكثير من أنوار النبوة ترسم لنا معالم هذا الطريق.
ومن هذه الأنوار النبوية ما جاء عن أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي، خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» (رواه مسلم )
ويمكن استجلاء معالم هذا النور النبوي من خلال ما يلي:
(1)هيكلة المفاهيم من جديد
ويأتي هذا الحديث في سياق النصوص التي تعيد هيكلة المفاهيم، حيث يمنع اختزال مفهوم القوة في قوة الجسد أو المال، ويبين أن الأصل في هذا المفهوم ارتباطه بالإيمان بالله تعالى والعزيمة في محراب التعبد له، وأن أنواع القوة الأخرى إنما تكتسب قيمتها حين تكون سبيلاً للنفع الإنساني، وبناء الحضارة التي تحقق الكرامة الإنسانية.
إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يضع في هذا الهدي النبوي صورة القوة في الإيمان أمام النفس الإنسانية، مصوراً لها هذا التصوير حتى تكون حاكمة على غيرها من مفردات معاني القوة (قوة الجسد ــ قوة المال ...إلخ)، وحين تضحي قوة الإيمان هي الحاكمة لما تحتها من معاني القوة يضحى المفهوم مفهوماً واحداً وإن تعددت صوره ومجالاته أي تصبح بقية مفردات القوة خادمة لمعناها الأصلي وهو قوة الإيمان.
(2) استخراج أعمق طاقات النفس
يستخرج هذا الهدي النبوي أعمق طاقات النفس الإنسانية، ويوجهها الوجهة الأرشد (احرص على ما ينفعك)، فالحرص تعبير عن وضع النفس في أعلى درجات الجاهزية تجاه الأشياء؛ لذا يوجه الإسلام هذه الجاهزية وجهة واحدة وهي (ما ينفعك)
ومن الطبيعي أن يكون مفهوم النفع هنا مفهوماً مندرجاً تحت مظلة الإيمان، وليس متروكاً لمجرد المقياس العقلي الذي كثيراً ما يتأثر بسطوة النفس ورغباتها.
(3) ضرورة الوعي بسنن الحياة
يأتي قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن أصابك شيء) بعد تأكيد معنى الإيمان في النفس وبيان المحك الحقيقي لانطلاقتها تبصرةً للمؤمن بطبيعة الحياة، وإعلاماً له بأن حرصه البالغ وسعيه الحثيث ليس معناه الخروج من دائرة السنن المقدرة.
وإن هذه هي طريقة الإسلام في التبصير بالسنن وهي أن يذكرها مرتبطة بحقيقة الإيمان حتى لا تقع النفس في أي من التوهمين المتعلقين بالسنن، وأعني بهما التوهم بأن هناك تعارضاً بين جريانها وبين حقيقة الإيمان، والتوهم بأنها حاكمة من تلقاء نفسها دون مسيِّر لها وقادر على خرق قوانينها.
ويزيل الإسلام هذين التوهمين حين يجعل السنن حقيقة تنسبك ضمن الحقائق الكبرى لهذا الدين.
(4)القلب والعقل في رحاب الإيمان بالقدر
من يتتبع التاريخ الإنساني يدرك إلى أي مدى كان هذا الإنسان في أمس الحاجة إلى أمرين:
الأول: ما يوجد حالة الطمأنينة لقلبه حتى لا يتقطع في رحلة السير الحياتية.
الثاني: ما يوجد حالة الراحة لعقله حتى لا يغرق في دوامة التساؤلات الكبرى.
ويأتي الإيمان بقدر الله ليمثل طمأنينة للقلب وهو يخوض غمار الحياة، وراحة للعقل وهو يفكر في أبعاد الحياة.
(5) التدبر الرشيد لأحداث الماضي
ليس معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا) ترك التأمل الرشيد لأحداث الماضي، لذا قال النووي: "قلت وقد جاء من استعمال لو في الماضي قوله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي)، وغير ذلك.
فالظاهر أن النهي إنما هو عن إطلاق ذلك فيما لا فائدة فيه، فيكون نهي تنزيه لا تحريم، فأما من قاله تأسفاً على ما فات من طاعة الله تعالى أو ما هو متعذر عليه من ذلك ونحو هذا فلا بأس به، وعليه يُحمل أكثر الاستعمال الموجود في الأحاديث.
ولقد بين النووي أن الحكم هنا يتبع العلة الكائنة في النطق بهذه الكلمة وليس مطلق التلفظ به، وهذا يرينا إلى أي حد يجب علينا تدبر مناطات الأحكام وعللها.