نواصل تقديم نماذج من تاريخنا في أهمية الأمومة وما لها من فضل كبير لاسيما في سعة العلم، وذلك في الشواهد التالية:
والدة الإمام مالك بن أنس (رحمه الله)
يعد الإمام مالك (رحمه الله) إمام دار الهجرة بالاتفاق، وكان لوالدته (عالية بنت شريك الأزدية) الأثر البالغ في توجيه والإشراف عليه، والفضل الأكبر فيما وصل إليه من سعة العلم واكتساب علم الفقه.
ويقول (رحمه الله):"قلت لأمي: أذهب فأكتب العلم؟ فقالت: تعال فالبس ثياب العلم، فألبستني ثياب مشمرة، ووضعت الطويلة على رأسي وعممتني فوقها ثم قالت: اذهب فاكتب الآن، وكانت تقول: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه"، حيث كان الإمام ربيعة صاحب أكبر المجالس العلمية في مدينة رسول الله -ﷺ- وله أثر عظيم في العلم والفقه ومكارم الأخلاق.
ونتيجة لهذا الاهتمام من والدته أصبح ملازماً للعلماء، لا يكاد يفارقهم، حتى إنه كان يخرج في طلب العلم، حيث الحرارة الشديدة في الظهر إلى منزل "نافع "وهو في البقيع خارج المدينة، يترقب خروجه من منزله، ثم يصطحبه إلى المسجد، حتى إذا استقر نافع واطمأن ألقى عليه أسئلة الحديث، والفقه، فأخذ عنه حديثاً كثيراً.
وتلقى عليه فتاوى ابن عمر-رضي الله عنهما- قائلاً:" كنت آتى نافعاً نصف النهار وما تظلني الشجرة من الشمس: أتحين خروجه فإذا خرج أدعه ساعة كأني لم أرده ثم أتعرض له فأسلم عليه وأدعه حتى إذا دخل البلاط أقول له: كيف قال بن عمر في كذا وكذا؟ فيجيبني ثم أحبس عنه".
وقد اقتضت حكمة الله -تعالى - أن تنتقل أنوار الفقه والحكمة إلى أولاد الإمام مالك، حتى قيل:" كانت لمالك ابنة تحفظ علمه -يعني الموطأ- وكانت تقف خلف الباب فإذا غلط القارئ نقرت الباب فيفطن مالك فيرد عليه".
والدة الإمام الشافعي (رحمه الله)
إن المطلع على سيرة الإمام الشافعي يجد أنه نابغاً في علوم القرآن وتفسيره، وفي علم الحديث وعلله وفقهه، نابغاً في العربية وآدابها، نابغاً في علوم الفقه وأصوله.
وكانت لوالدته (فاطمة بنت عبدالله الأزدية) الأثر البالغ فيما وصل إليه، إذ نشأ الإمام الشافعي يتيمًا، وبقي في كفالة أمِّه، التي نذرت ابنَها للعلم تجوب به البلدان، وتقدمه إلى الشيوخ، وتلتمس له مكانًا في الحلقات، حتى صار الشافعيُّ هو الشافعيَّ الذي ملأ طباق الدنيا علمًا.
ولما مات أبوه قررت أمه العودة إلى مكة، وفي هذا يقول الإمام الشافعي:"ولدت باليمن، فخافت أمي عليّ الضَّيْعَةَ، فقالت: ألحق بأهلك فتكون مثلهم، فجهّزتني إلى مكة وأنا يومئذ ابن 10 سنين".
ونقل أن والدة الإمام الشافعي السيدة فاطمة الأزدية كانت تقية وفقيهة وعالمة ذكية، تعرف للعلم قدره، مما جعلها تشجع ابنها على التعلم والاستزادة من العلم رغم العوائق، التي كانت تقع في طريقه لإكمال تعليمه؛ قال عنها تقي الدين السبكي في "طبقات الشافعية" :"وَكَانَت أمه- رضى الله عَنْهَا- بِاتِّفَاق النقلَة من العابدات القانتات وَمن أذكى الْخلق فطْرَة وهى التي شهِدت هي وَأم بشر المريسى بِمَكَّة عِنْد القاضي ،فَأَرَادَ أَن يفرق بَينهمَا ليسألهما منفردتين عَمَّا شهدتا بِهِ استفساراً فَقَالَت لَهُ أم الشافعي: أَيهَا القاضي لَيْسَ لَك ذَلِك؛ لِأَن الله تَعَالَى يَقُول ﴿أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ﴾ فَلم يفرق بَينهمَا".
وقال السبكي:" وَهَذَا فرع حسن وَمعنى قوى واستنباط جيد ومنزع غَرِيب وَالْمَعْرُوف في مَذْهَب وَلَدهَا -رحمه الله- إِطْلَاق القَوْل بِأَن الْحَاكِم إِذا ارتاب بالشهود اسْتحبَّ لَهُ التَّفْرِيق بَينهم وكلامها -رضى الله عَنْهَا- صَرِيح في اسْتثِنَاء النِّسَاء للمنزع الذي ذكرته وَلَا بَأْس بِهِ ".
رحم الله الإمام الشافعي، ورحم أمه رحمة واسعة، وللحديث عن أم الإمام الشافعي.
والدة الإمام الشافعي (رحمه الله)
في مكة المكرمة، تمكن الإمام الشافعي من ختم القرآن الكريم وهو ابن 7 سنين، ثم ذهبت أمه (رحمها الله) به إلى شيوخ المسجد الحرام، ووجهته لإتقان القراءة، والتلاوة والتفسير، ولم يكد (رحمه الله) يبلغ الـ 13 من عمره حتى استطاع أن يتقن ذلك إتقاناً جيداً، كما استطاع أن يحفظ (الموطأ) للإمام مالك؛ الذي كان وما زال من أعظم الكتب وأفضلها نفعاً وتأثيراً في علم الحديث. يَقُول الإمام الشافعي: "حفظت الْقُرْآن وَأَنا ابْن سبع سِنِين وحفظت الْمُوَطَّأ وَأَنا ابْن عشر".
ويقول رحمه الله عن نفسه: "كنت وأنا في الكُتَّاب أسمع المعلم يلقِّن الصبيَّ الآية، فأحفظها أنا"، ولقد كان الصبيان يكتبون إملاءهم، فإلى أن يَفْرغَ المعلم من الإملاء عليهم كنت قد حفظت جميع ما أملى. فقال لي ذات يوم: ما يحل لي أن آخذ منك شيئاً، وقال: "ثم لما أن خرجت من الكُتَّاب كنت ألتقط الخزف، والرقوق –جلد رقيق- وكرب - وأصول السعف- والنخل، وأكتاف الجمال، أكتب فيها الحديث، وأجئ إلى الدواوين، وأستوهب منها الظهور، فأكتب فيها، حتى كان لأمي حبان، فملأتهما أكتافاً، وخزفاً، وكرباً، مملوءة حديثاً".
ويقول رحمه الله:" كنت يتيماً في حجر أمي، ولم يكن معها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي مني أخلفه إذا قام، فلما ختمت القرآن دخلت المسجد، فكنت أجالس العلماء، فأحفظ الحديث، أو المسألة، وكان منزلنا بمكة في شعب الخيف، قرية بمحافظة الجموم شمال مكة المكرمة، فكنت أنظر إلى العظم يلوح، فأكتب فيه الحديث والمسألة، وكانت لنا جرة قديمة فإذا امتلأ العظم طرحته في الجرة"، وللحديث بقية.