خلق الله تعالى الإنسان من روحٍ وعقلٍ وجسدٍ، وهيأ لكلٍّ منها غذاءً يختص به، وعنايةً تمتاز بها، وبنو آدم لا يختلفون فيما يتعلق بغذاء الجسد، وهم متفقون على تغذية العقل بالمعارف، بينما نجدهم في غذاء الروح ينتهجون مذاهب شتى بحسب معتقداتهم الدينية، فلكلٍّ وجهةٌ هو موليها في ارتقائه بروحه.
وقد أدى طغيان المذهب المادي في الغرب إلى الخواء الروحي بين أفراده، مما أدى بهم إلى التلفت شرقًا وغربًا يبحثون عن بصيص من رواء يسقي تلك الأرواح الظمأى، فوقع البعض منهم على طقوسٍ شرقية فأضحوا يعبون منها علها تُعيد لأرواحهم روحها، ولقلوبهم سكينتها، ورويدًا رويدًا إذ بهذه الممارسات تتسرب إلى العالم الإسلامي.
ولكن، لماذا نستورد من غيرنا ممارساتٍ لإحياء أرواحنا؟ وفي ديننا ما يفوق ذلك ويتميز عليه بمراحل أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة: 61]، فالمنهج الإسلامي في هذا الصدد هو الأهدى سبيلًا والأقوم طريقةً بلا شكٍ ولا ريبٍ؛ لأنه من عند خالق الروح وباريها أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14]، وإذا كان الأمر كذلك فما غذاء الروح في الدين الإسلامي؟
الجواب الإجمالي لهذا السؤال هو اتباع الوحي، وقد سمى الله تعالى الوحي روحًا: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى: 52]، وذلك "لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح" مدارج السالكين (3/243)، وأما الجواب التفصيلي فغذاء الروح يكمن في التعرف على الله تعالى بأسمائه وصفاته، وفي الأنس به وبذكره، وفي التعبد له بفعل أوامره واجتناب نواهيه، هكذا بكل بساطةٍ ووضوحٍ بلا تعقيدٍ ولا غموضٍ.
ولننظر على سبيل المثال ما تفعله عبادة واحدة من شرائعه التعبدية المتعددة في إمداد الروح بزادها الإيماني اليومي، ولعمري إنه لزادٌ إيمانيٌ عالي الجودة للروح بأقل جهدٍ وأيسره لكن بشرط قلبٍ يقظٍ، ذلكم التشريع هو (أذكار الصباح والمساء)، حيث تضمنت تخليةً وتحليةً وتحصينًا وافتقارًا.
والتخلية المتمثلة في دعاء (سيد الاستغفار) الجامع لأسباب المغفرة، إذ الذنوب تثقل كاهل الروح، وتخلد بها إلى الأرض -وهي المخلوق العلوي- فتقلق وتضطرب، فإذا افتتح المسلم يومه بهذا الدعاء متيقنًا محا الله تعالى ذنوبه، حتى أنه ليدخله الجنة إن مات من يومه أو ليلته.
أما التحلية فيُبرزها ذكر: «رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا»، وفي هذا تجديدٌ للعهد مع الله رب العالمين، وإعلانٌ لكمال التسليم لشرعه وقَدَره، والتزام الانقياد التام له ولدينه ولنبيه صلى الله عليه وسلم، فيكافئ الله تعالى عبده بأن يذيقه طعم حلاوة الإيمان في الدنيا، وأن يُرَضِيَه في الآخرة.
ويظهر التحصين في ذكر: «بِاسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ، وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»، وبهذا تحصل السلامة للمرء جسدًا وعقلاً وروحًا من شر كل ذي شرـ
وأما الافتقار ففي دعاء: «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ»، أنعم بهذا الافتقار وأكرم به! إنه افتقارٌ لخالق الأرض والسماء، واستعانةٌ بمن بيده أزمة الأمور على صلاح الحال، ودوام التوفيق.
وبمثل هذا الزاد الإيماني تكون حياة الروح ويقظتها، وبه تسمو وتقترب من الكمال البشري المنشود، وتتعالى على الآسار الطينية، وتتحرر من الأغلال الأرضية، فالروح سماوية الطباع، ولن يُسكن قلقها أو يؤنس وحشتها إلا بالإقبال على الله تعالى، والانطراح بين يديه، فتفيض عليها الهدايات الربانية، والهبات الإلهية، فتسعد وتطمئن، وتستسلم لمرادات الله تعالى في كل ما تأتي وتذر، وعندها تغدو روحًا طيبة صالحةً سعيدةً، روحًا كالتي عبر عنها أحد العارفين بالله تعالى: "إنه لتمر بي أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيشٍ طيبٍ". وبصلاح الروح يصلح الفرد، فيصلح المجتمع.