في كتاب ثرثرة فوق النيل، يعرض نجيب محفوظ اجتماع ثلة من الشباب في قارب على نهر النيل بحثاً عن معنى للحياة في مواجهة مختلف أنواع القهر من الخيانة إلى الإهمال والتهميش. ولم يكن غريباً أن يجمع هذه الفئة من البشر تعاطي الحشيش كنوع من الهروب من الواقع المهين. ففي غياب القدرة على الوصول إلى السعادة قد يلجأ الكثيرون للبحث عن المتعة الحسية الفورية، حتى لو كان ذلك سبباً لتدهور صحتهم الجسدية والنفسية.
ولكن ما هي السعادة وهل لها أنواع مختلفة؟
يشير كثير من الباحثين إلى كون السعادة عاطفة متعددة الأوجه، يمكن أن تتخذ أشكالًا وتعبيرات مختلفة، فالسعادة القائمة على المتعة لا تنحصر بتناول المواد الممنوعة والمخدرة، ولكن ترتبط أيضاً بكل ما يؤدي إلى متعة قصيرة الأمد، مثل تناول طعام زكي أو تلقي الإطراء من الآخرين.
وهذا النوع من السعادة خارجي المصدر ومؤقت بطبيعته، وقد يؤدي الاعتماد على هذا النوع من السعادة لكثير من خيبات الأمل، فالطعام الطيب الطعم قد يرهق المعدة كما أن البحث عن رضا الناس غاية لا تدرك، وهذا النوع من السعادة هو الأكثر تأثراً بالعزلة والشعور بالوحدة.
وهناك سعادة قائمة على النجاح والتميز الشخصي يمكن الوصول إليها من خلال تحقيق هدف يشعرنا بمشاعر الفخر واحترام الذات، وحتى هذا النوع من السعادة لا يستمر طويلاً لأن أغلبنا يفقد متعة النجاح بسرعة، ويتجه للوصول إلى الهدف التالي في الحياة.
فنجاح المدرسة لا يعني شيئاً لنا دون نجاح الجامعة، ونجاح الجامعة يفقد بريقه عند البحث عن الوظيفة المناسبة، والوظيفة لا تعني شيئاً لنا إذا لم نحقق توقعات المجتمع المحيط بنا بشراء منزل والزواج، وإنجاب الأطفال وتربيتهم ليكملوا دورة الحياة بعدنا.
لذلك فسعادة النجاح تضطرب بالظروف المحيطة، والعزلة مع عدم وجود من تشاركه لحظة النجاح يطفئ الكثير من بريقها.
وعند البحث عن السعادة يتجه بعض الناس، لتحقيق شكل أعمق وأكثر ديمومة من السعادة يرتبط بشعور المرء بالرضا عن حياته وظروفه الشخصية، وغالبًا ما يوصف هذا النوع بالسعادة الداخلية المرتبطة بالإحساس بالهدوء والسلام، مما يساعد بالوصول إلى ذلك وجود معنى للحياة يمكن تعزيزه من خلال التطوع لمساعدة الآخرين وعن طريق التأمل الذاتي والتركيز على اللحظة الحالية مع الشعور بالامتنان لما لدينا من أشياء بسيطة في الحياة.
لهذا يمكن فهم المعنى الداخلي للسعادة على أنها حالة ذهنية، وليست نتيجة محددة أو حدثًا خارجيًا، وقد تحدث فلاسفة اليونان عن فكرة اليودايمونيا Eudaimonia، وهو مصطلح استخدم لوصف حالة الرفاهية والازدهار كهدف نهائي للحياة البشرية يمكن الوصول إليه من خلال توازن متناغم بين الفضيلة والعقل والرغبة.
وفي هذا المجال تحدث أرسطو عن الحياة الجيدة التي يمكن أن تتحقق من خلال تنمية الفضيلة، واستخدام العقل لاتخاذ قرارات جيدة، وامتلاك رغبات تتماشى مع قيم المرء ومعتقداته.
ومن أخطر ما يمنع المرء من تحقيق السلام الداخلي هو ما يعرف بالتنافر المعرفي Cognitive dissonance، ففي هذه الحالة غير الصحية يعيش الإنسان في صراع بين ما يعتقده وما يقوم به من تصرفات، فالإنسان المدخن والذي يعتقد أن التدخين أمر سيء للغاية سيبقى بحالة تناقض فكري إلى أن يترك التدخين أو يقنع نفسه، أن التدخين ليس سيئاً لهذه الدرجة.
هل تتأثر السعادة بالعزلة عن المجتمع؟
قد تتأثر السعادة الداخلية بالعزلة والانقطاع عن العالم، ولكنها تستمر برغم ذلك وتتطور وتصل إلى درجات راقية إذا وجدت نفساً تهذبها، ولعل تجربة ابن سينا في السجن والعزلة القسرية ألهمته في البحث عن العلاقة بين السعادة والنفس فتوصل إلى ضرورة تنقية النفس من الغضب والخوف والحزن من أجل الوصول إلى الاستنارة الروحية.
وفي حكايته عن الرجل الطائر، يشرح ابن سينا تجربة فكرية يتخيل فيها رجلاً معلقًا في الهواء، بدون اتصال بالأرض أو بأي أشياء خارجية، فلا يتأثر هذا الرجل بأي منبهات جسدية أو حسية، ولا يدرك إلا أفكاره وأحاسيسه.
ويستخدم ابن سينا هذا الرمز لبيان استقلال العقل البشري والنفس عن الجسد والعالم المادي ويصل إلى أن العقل لديه القدرة على فهم العالم والوصول إلى حالة من السعادة الداخلية، حتى في غياب المحفزات الخارجية، وقد كان لرمز ابن سينا للرجل الطائر تأثير عظيم على تطور الفلسفة وأثر على العديد من المفكرين على مر القرون.
فقد طور الفيلسوف رينيه ديكارت وجهة النظر هذه في أن العقل والجسد كيانان منفصلان عندما أعلن كما هو مشهور (أنا أفكر إذاً أنا موجود) معتبراً أن العقل هو أمر غير مادي متميز عن الجسد، أما رمز ابن سينا بأن العقل لديه القدرة على فهم الواقع من خلال التفكير والاستنتاج بغض النظر عن أي مدخلات خارجية فقد أثر لاحقاً بفلاسفة مثل جون لوك وإيمانويل كانط، الذين طوروا النظريات التجريبية والمثالية التي تتناول طبيعة المعرفة وكيفية اكتسابها.
كما يمكن اعتبار قصة الرجل الطائر شكلاً مبكرًا من التأمل الذاتي، وقد تم تطوير هذه الفكرة بشكل أكبر من قبل فلاسفة مثل فريدريك نيتشه وجان بول سارتر، الذين شددوا على أهمية التأمل الذاتي والوعي الذاتي في السعي للوصول إلى السعادة وتحقيق الذات.
وهناك أمثلة عديدة للتغلب على العزلة الاجتماعية في الأدب العربي والعالمي التي يمكن استلهامها في عصرنا الحالي، ولا شك أن فكرة المرونة والتصميم والإرادة القوية للتغلب على العزلة قد ظهرت قبل تطور علم النفس الحديث، فكثير من قصص ألف ليلة وليلة كسندباد وعلاء الدين والصياد والعفريت وغيرهم تظهر أن التواصل مع الآخرين والاستعداد لاستكشاف واحتضان تجارب جديدة يسهم في التغلب على العزلة الاجتماعية والعثور على السعادة والوفاء.
وإذا كان علم النفس يحذر من ارتباط الوحدة والعزلة الاجتماعية بزيادة خطر الإصابة بالاكتئاب والقلق والشعور بالملل واليأس، فمن المهم التذكير أنه ليس كل من يعاني من العزلة سيعاني من آثار نفسية سلبية، فبعض الناس أكثر مرونة وقادرون على التكيف مع العزلة بطريقة صحية، بينما قد يكون لدى البعض الآخر أنظمة دعم تساعدهم على التأقلم، وبكل الأحوال فإن المرونة النفسية أمر يمكن تطويره من قبل جميع من يرغب بتحسين حياته ومواجهة الصعوبات.
كيف يمكن أن نطور مرونتنا النفسية؟
بغض النظر عن الظروف، يمكننا أن نطور استراتيجيات المرونة النفسية بأنفسنا أو عند تلقينا التدريب اللازم من قبل مختصي علم النفس ومن ثم يمكننا جعل هذه التقنيات عادات يومية تشعرنا بالسعادة بكل أنواعها، وعلم النفس الإيجابي يعلمنا أننا يمكننا التعلم والتغير ما دام عندنا عقلية التطور بدلاً من عقلية الثبات، ويجب أن نعرف ما هو هدفنا وكيف يمكن الوصول إلى هذا الهدف.
فالوصول إلى الهدف يحتاج إلى العمل بثبات وصبر، وهناك مقولة أنك لا تتوقف عن الرقص لأنك أصبحت عجوزاً، بل أنت تصبح عجوزاً عندما تتوقف عن الرقص، فالنشاط الجسدي والرياضة والاستمتاع بالحياة دواء لكثير من الأمراض النفسية والجسدية.
فأخذ قسط من الراحة والنوم الجيد وممارسة التأمل وتقنية التركيز هي من الأمور الضرورية لمواجهة العزلة، أما التطوع ومساعدة الآخرين ومسامحة نفسنا ومسامحة الأخرين فكلها من الأشياء المهمة لتحقيق السلام الداخلي سواء بحسب قصص أبطال الروايات أو على رأي أطباء وعلماء النفس.