والجسر الذي نتحدث عنه هنا لا يقل أهمية عنها، بل قد يكون أوسع أثراً وأعمق حضوراً في حياة الناس واقتصاداتهم وثقافاتهم ووجدانهم. فهو جسرٌ للمعرفة الخالصة والإبداع والتبادل، وهو جسر عابر للغات والبلدان والثقافات والإمكانات والأزمنة، جسر تُقاس جدواه بقدرته على تحويل الطاقات والموارد والإبداعات إلى قيمةٍ عامة. إننا أمام مفهوم للجسر بوصفه بنية عبورٍ متبادل للأفكار والمهارات ورأس المال الثقافي.
نحن أمام مشروع ضخم بحجم الطموح وبحجم الإيمان بالطاقات، تتجسد ملامحه عبر "قمة بريدج" المزمع عقدها في إمارة أبوظبي، التجمع الأكبر من نوعه في العالم، والذي يجمع كافة صناع الإعلام والقيمة والرسالة والمحتوى من شتى القطاعات والمجالات: من الأدب والنشر والترجمة، إلى السينما والتلفزيون والمنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، إلى الموسيقى وفنون الأداء، مروراً بصناعات الألعاب والواقعين المعزّز والافتراضي، والتصميم والعمارة، والحِرَف والمنتجات الثقافية، والإعلام ومؤسساته، وصولاً إلى الجامعات ومراكز الأبحاث وحاضنات الابتكار. وتجمع أيضاً القادة وصناع القرار وأصحاب الرؤى في مساحة مشتركة من التفاعل والتبادل.
إنها قمة ملهمة، تقدم فرص الأعمال والاستثمار وتبادل المنفعة والعوائد، والشراكة وتطوير الأعمال وتحويل الأفكار إلى مشاريع بطريقة غير تقليدية، بعيدة عن الرسمية المعتادة، وأكثر قرباً من روح المستقبل الذي يحملنا إليه هذا "الجسر"، حيث يجد كل مبدع ومنتج قيمة أو رسالة أو فكرة في هذا العالم مساحة تمنحه الدفء والانتماء والتحفيز في آن.
ولا تقف القمة عند حدود اللقاء، بل تفتح مساراتٍ عملية للتواصل والتعلّم وبناء الشراكات، من خلال مختبرات للإنتاج المشترك، وحلقات لتقريب التشريعات من واقع الصناعة، وأسواق تربط المشاريع بجهات التمويل والتوزيع، وفضاءات عروض فنية وبحثية لتبادل الخبرات، إضافة إلى جلسات توافق مهني لتوحيد معايير القياس وتأهيل الكفاءات. في هذه البيئة الديناميكية تُبنى جسور الثقة، ويتكرّس الشعور بالانتماء إلى مجتمعٍ مهني عالمي، وتتحول الشبكات العابرة للحدود إلى فرصٍ استثمارية قابلة للقياس، وإلى شراكاتٍ قادرة على الصمود أمام التقلبات.
ولأننا ننطلق في رؤيتنا من الأعالي كما علمنا قادتنا، تشكّل القمة الانطلاقة العملية لـ "بريدج"، بوصفه منظومة دائمة للعمل والإبداع على مدار العام. فهو الفضاء الذي ينظّم اللقاء بين المبدع والمستثمر، وبين الموزّع والمنصة، وبين التشريعات وشركات المحتوى، وبين الجامعات ومسرّعات الأعمال. إنها البداية لتأسيس شبكة فاعلة تجعل من الثقافة والوسائط الإبداعية جزءاً عضوياً في المشهد العالمي العام، وأداةً عملية لتعزيز الانتماء والوصول والتنوّع.
لقد أردنا أن يكون لـ "بريدج" أبعاداً استراتيجية دائمة التفاعل، ترسم مسارات طويلة المدى تمتد إلى الاقتصاد والمجتمع والثقافة والتنظيم. فمن الناحية الاقتصادية، سيعمل على توسيع قاعدة الاقتصاد غير المادي عبر سلاسل قيمة تمتد من الفكرة إلى المنصّة، ومن المنصّة إلى السوق، بما يُسهم في تسريع نمو الشركات الناشئة، ويستقطب الاستثمارات، ويوفر وظائف نوعية للشباب.
ومن الناحية الاجتماعية، يعزز "بريدج" الاندماج الثقافي، ويمنح الأصوات المختلفة منفذاً عادلاً إلى المنصات، كما يُرسّخ ثقافة التعلّم مدى الحياة والمهارات الرقمية. وفي البُعد الثقافي والفني، يساهم في تطوير الذائقة العامة، وحماية تنوع اللغات والثقافات والتراث، ويفتح المجال أمام ابتكارات مفاهيمية وتقنية جديدة. أما البُعد التنظيمي، فيتمثل في تقريب التشريعات من واقع الصناعة عبر حوارٍ مؤسسي فاعل، كل تلك النواحي تشكل أبعاداً إضافية لترسيخ مكانة الدولة مركزاً عالمياً لترابط الأمم، ونقل الرسالة الثقافية من نطاق العرض إلى نطاق التأثير.
لقد اختارت دولة الإمارات أن تبني هذا الجسر؛ لأنها تتحرك وفق رسالة واضحة: أن تكون مبادِرة إلى دور عالمي غير مسبوق، يجعل من ربط العقول والطاقات جسراً دائماً ومفتوحاً على كافة الاتجاهات. فالإمارات، التي صنعت من الانفتاح والتنوّع قاعدةً لهويتها المعاصرة، ترى أن قيادة المستقبل تبدأ من بناء البنى التحتية غير المادية، وتؤمن بأنها قادرة، بما تمتلكه من خبرةٍ في صناعة المنصات الدولية، على تحويل "بريدج" إلى عقدة وصل كبرى في شبكة المحتوى العالمي، عقدةٍ تمنح المنطقة والعالم نموذجاً عملياً لكيفية إدارة القيمة الكامنة كأصل استراتيجي مستدام.