يحسن بنا أن نعرِّف السنة النبوية قبل الولوج إلى مضامين هذا العنوان؛ لأن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، فالسنة النبوية: هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، وبعبارةٍ أخرى: هي شرح النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم، وتبيانه له، سواءٌ بتأكيدٍ لما جاء فيه، أو تفصيلٍ لمجمله، أو تخصيصٍ لعامه، أو تقييدٍ لمطلقه، أو تشريعٍ لأحكامٍ جديدةٍ ليست فيه، كما تعد السنةُ التطبيقَ النبويَّ العمليَّ لما جاء في القرآن الكريم، كيف ذلك؟
ولقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يجعل كتابه العزيز حاملًا طابع الإجمال لا التفصيل، ومَيْسم الإيجاز لا التطويل، ثم أوكل لنبيه صلى الله عليه وسلم مهمة بيانه وإيضاحه مع تبليغه وتعليمه، فإذا أجلْنا النظر في الأحكام التشريعية التي أمرنا بها الله عز وجل في القرآن الكريم نجد أنه يتعذر العمل بكثيرٍ منها من غير رجوعٍ إلى السنة النبوية، ولنضرب لذلك مثالًا مشهورًا، وهو قوله تعالى: وأقيموا الصلاة، هذا أمر مجمل بإقامة الصلاة، ولولا بيان النبي صلى الله عليه وسلم لكيفية الصلاة، وعددها، ومواقيتها، وشروطها لما استطعنا الامتثال للأمر الإلهي بإقامتها.
ولا يعترضنّ معترضٌ فيقول: إنما عرفنا كيفيتها من خلال التطبيق العملي الذي توارثته الأمة جيلًا عن جيل، فيقال له: وهل التطبيق العملي إلا من صميم السنة المطهرة؟! إذ الصلاة عبارة عن أقوال وأفعال مخصوصة تُلقيت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو عين السنة الشريفة.
ويقرر هذه الحقيقة الصحابي عمران بن حُصَين رضي الله عنهما لما قال له أحد جلسائه: لا تُحدِّثونا إلا بالقرآن، فأجابه عمران بقوله: "أرأيت لو وُكلتَ أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد فيه صلاة الظهر أربعًا، وصلاة العصر أربعًا، والمغرب ثلاثًا تقرأ في اثنتين؟ أرأيت لو وُكلتَ أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد الطواف بالبيت سبعًا، والطواف بالصفا والمروة؟ أي قوم، خذوا عنا - (أي: سنة نبيكم عليه الصلاة والسلام) -، فإنكم والله إلا تفعلوا لَتَضِلُّنَّ". "الكفاية، للخطيب البغدادي 16 "
وإن مما يبدو جليًا لبدائه العقول أن إرسال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم لم يكن لتبليغ القرآن الكريم للناس فحسب، وإنما لبيانه وتطبيق أحكامه لهم أيضًا، ولو كان مراد الله تعالى من بعثة رسوله صلى الله عليه وسلم الأمر الأول دون الثاني لأنزل عليه القرآن جملةً واحدةً، ولانتهت مهمته في حينها، ولم يكن ثمة داعٍ لامتداد الرسالة طيلة 23 سنة.
ويتمحص لنا مما سبق أن حاجتنا إلى السنة النبوية ماسةٌ جدًا بل ضرورة؛ حتى يستقيم لنا أمر الدين والدنيا معًا، ونحوز الفلاح في الآخرة، ونفوز بمرضاة الرب جلّ في علاه، القائل: مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء: 80]، والقائل: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر: 9]، والقائل: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب: 21].
ولعمري كيف يكون الاقتداء به مع رفض سنته وتحييدها؟!
ولله در حسان بن ثابت رضي الله عنه حين قال في رثاء الحبيب المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه:
............................ وَقَد كانَ ذا نورٍ يَغورُ وَيُنجِـــــــــدُ
يَدُلُّ عَلى الرَحمَنِ مَن يَقتَدي بِهِ وَيُنقِذُ مِن هَولِ الخَزايا وَيُرشِـــــــــــدُ
إِمــامٌ لَهُـــم يَهديهِمُ الحَقَّ جاهِداً مُعَلِّــمُ صِدقٍ إِن يُطيعوهُ يَسعَدوا