عندما تُذكر المدن، تحضر إلى الأذهان انطباعات محددة مرتبطة بذاكرة المتلقي حول تلك المدينة، بعض المدن يحضر معها جمال الطبيعة، وبعضها يحضر معها التطور التقني، وغيرها يستحضر التطور الثقافي ورقي العادات والقيم، وهناك مدن تذكر أسماؤها في فراغ لأن لا أحد يعلم عنها شيئاً.
وهذه الانطباعات هي التي تحدد السمعة الدولية للمدينة أو حتى للأمة، وهي لا تتشكل تلقائياً بل تُبنى تراكمياً من خلال الاتصال والتواصل مع العالم للتعريف بالمنجزات التي تحققت، وبالقيم والعادات المحلية وبالدور الإنساني على المستوى الأكثر شمولاً.
وفي عصر الانفتاح وسهولة الحصول على المعلومات، لم تعد السمعة الدولية التي تبنيها الأمم من خلال الاتصال مجرد مواقف شخصية لمجموعة من الأفراد، بل أصبحت ثروة استراتيجية كبيرة، ومورداً للكثير من الثروات، إذ تمثل عاملاً هاماً في جاذبية السياحة والاستثمار والتعليم ونظام الرعاية الصحية، وتمهد الطريق نحو الشراكات الدولية التي لا غنى عنها في مسيرة التنمية، إلى جانب أنها تعزز الاحترام المتبادل للثقافات والقيم بين الشعوب المختلفة.
وهنا يبرز السؤال المحوري في هذا السياق، وهو كيف نتواصل من أجل التعريف بمنجزاتنا والاطلاع على منجزات الآخرين وتعزيز سمعتنا الدولية في إطار من المشاركة والتعاون الخالص؟ وما هي أفضل المناهج للتأثير الإيجابي في الشعوب، وبناء العلاقات الراسخة؟
إن مراجعة سريعة لـتجربتنا الخاصة في دائرة العلاقات الحكومية، تضعنا أمام عدة استنتاجات منهجية تحدد الإطار السليم للتواصل الفعال، في مقدمتها أن المنجز المحلي مهما كان عظيماً لا يكفي ليكون له دور في بناء السمعة الدولية، بل على هذا الفعل أن يكون له صوت ورسالة وقنوات تنقله للعالم وتعرف به.
فصحيح أن في ثقافتنا العربية هناك قاعدة تقول: افعل بصمت ودع أفعالك تتحدث عنك، لكن لهذه القاعدة استثناء يصل إلى حد الضرورة عندما يكون الفعل منجزاً جماعياً وطنياً، حيث تتجاوز الأفعال في هذه الحالة مساحة الملكية الخاصة، وتصبح ملكاً للإنسانية، بمعنى من حق الإنسانية الاطلاع عليه لتستلهم منه برامجها واستراتيجياتها التنموية، وهذا ما يسمى بالاتصال من أجل تبادل التجارب والخبرات، ثم أن الاطلاع على التجارب يوفر الوقت والجهد والإمكانيات، ويختصر المسافة نحو النجاح.
والاستنتاج الثاني الذي أثمرته تجربة الشارقة، هو أن على التواصل أن يكون وقوراً لا إسراف فيه ولا استعراضية أو فوقية، بل يجب أن يبقى منشوداً للبعد الإنساني والغاية النبيلة.
إن شعوب العالم تواقةٌ للتواصل، والتعرف على ثقافات جديدة، لكن منهجية التواصل تحدد إمكانية قبوله أو الإعراض عنه، ولعل في حياتنا الخاصة الكثير من العبر في هذا السياق، فبعض الرسائل تثير فينا النفور والرفض مهما بلغت أهميتها وصدقها فقط لأنها نقلت بطريقة خاطئة، والبعض الآخر يترك في نفوسنا أثراً مستداماً مهما كان بسيطاً.
والاستنتاج الثالث، يجب أن يكون الاتصال مع العالم عملية مدروسة ومخططة لها غاياتها الخاصة والعامة وتراعي المصالح المشتركة، لأن تنظيم عملية الاتصال الدولي بشكل خاص، يعني فهم المجتمعات الأخرى ومراعاة ثقافتها وقيمها وطموحاتها والتعرف على المشترك بيننا وبينها، لهذا يجب أن يكون التواصل واعياً وليس عفوياً وأن يؤسس لعلاقات استراتيجية بين الشعوب، تستمر بدون منغصات.
لنكن أفراداً ومؤسسات، صوتاً لمنجزاتنا المحلية أمام العالم، لنكن رسالتها وغايتها، ولنتعامل مع الاتصال بوصفه مهمة وطنية وأولوية كبرى، فعلى قدر فعالية هذا الاتصال، نجلب الخير لمجتمعنا ومجتمعات الأرض، ونرسخ أسس التعاون لنهضة إنسانية مشتركة يجني ثمارها الجميع بدون استثناء.