جار التحميل...

mosque
partly-cloudy
°C,

حاكم الشارقة يكتب: ثالثة الأثافي

03 يونيو 2024 / 9:26 AM
صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة
download-img
في نهاية عام 1965، كنت طالباً في السنة الدراسية الأولى في كلية الزراعة بجامعة القاهرة، وقد وصلتها متأخراً عن بداية الدراسة، فلم أتعرف على الطلبة، ولم أكن من المترددين على مطعم الطلبة، حيث كان كخلية نحل، مزدحماً بالطلبة، أما الطالبات فكانت لهن استراحة الطالبات في الدور العلوي من المطعم.

وأنا أجول بنظري في الساحة المتوسطة لمباني الكلية، لمحت أن هناك بساطاً أخضرَ من الحشائش يمتد إلى سور الكلية وفي نهاية ذلك البساط الأخضر مبنى من خشب، يقال له: كُشك، كُتب على واجهته: "مكتبة الأنجلو المصرية".

في ذلك الكُشك جلس رجلٌ، مرتدياً ثوباً مما يلبسه المصريون والسودانيون، يقال له: القلابية، حيث تنقلب بين الخلف والأمام، ألقيت عليه التحية، وعرفته بنفسي قائلاً: "أنا الطالب سلطان بن محمد القاسمي من طلبة السنة الأولى".

قام ذلك الشخص، الجالس في وسط الكُشك، وحوله أرفف مليئة بالكتب وقال: أنا فكري كراس بخيت من مكتبة الأنجلو المصرية.
قلت: المكان هادئ، مناسب للقراءة.

قال: تطلب كتاباً معيّناً؟

قلت: أريد أن أعرف أسماء الكتب التي على الأرفف.

قال: تفضل.

وأدخلني إلى داخل الكُشك، وقرّب لي كرسياً كان قريباً منه، وهو يقول: اجلس، وأنا أحضر لك الكتب.

سأل فكري عن بلدي، وشرحت له مكانها على خريطة رسمتها على كشكول كان معي، وأعطيته تلك الورقة. وكلمة كشكول عربية، وتعني: وعاء المتسول، يضع فيه رزقه وهو خليط، كذلك الكراسة التي توضع فيها المعلومات.

كنت أجلس في كُشك عم فكري كل يوم أكون فيه في الكلية، ولا أخرج من ذلك الكُشك، إلّا وأنا قد اشتريت من عنده كتاباً أو كتابين.

حدثني عم فكري عن صاحب مكتبة الأنجلو المصرية، الأستاذ صبحي جريس، الذي لاحظ أن مبيعات عم فكري قد زادت في الكتب الثقافية، وقد سأله عن سبب ذلك. أخبر عم فكري الأستاذ صبحي جريس عني، وأظهر له الورقة التي رسمت عليها خريطة الخليج العربي، وقال له: إنه من بلد يسمى الشارقة. طلب الأستاذ صبحي جريس من عم فكري أن يخبرني بأنه يريد أن يقابلني.
قلت لعم فكري: متى نذهب إليه؟

رد عم فكري: حتى لو تريد الآن.

قلت: بدون سابق ميعاد؟!

قال: كل وقته في المكتبة، لكنّي سأتصل بالمكتبة هاتفياً، لا تترك الكُشك. خرج عم فكري من بوابة الكلية الجانبية، التي تفتح على شارع به بقالة صغيرة بها هاتف لاستعمال الجمهور.

عاد عم فكري وهو يقول: هيا بنا، الأستاذ في انتظارك. ركب عم فكري معي في سيارتي، فسألته عن مكان المكتبة، فأخبرني قائلاً: وسط البلد "وسط مدينة القاهرة"، شارع محمد فريد.

في الطريق إلى المكتبة، أخذ فكري كراس بخيت يتحدث عن المكتبة ومؤسسها الأستاذ صبحي جريس، وإذا به خبيرٌ متمكنٌ في حديثه عن المكتبة، وليس عم فكري بالقلابية.

قال فكري بخيت: مكتبة الأنجلو المصرية أسسها صبحي جريس عام 1928، كانت تطبع الكتب الأجنبية، وفي أواخر الأربعينات بدأت بنشر الكتب العربية، وهي من أكبر دور النشر في القاهرة، سميت بمكتبة الأنجلو المصرية اختصاراً لكلمة "الإنجليزية المصرية"، لتخصصها في الكتب الإنجليزية.

تخصصت المكتبة في الكتب العلمية الأكاديمية، وكتب علم النفس والتاريخ، التي أثرت مكتبات مختلف الجامعات المصرية.

أضاف عم فكري قائلاً: "وإلى جانب معرفته الواسعة بالكتب والعلوم، كان صبحي جريس مُعلماً رغم أنه لم يكن مدرساً يُعطي دروساً ممنهجة، فكان مدرسة متنقلة مفتوحة لجميع الكُتّاب والقراء، لا سيما الطلاب منهم".

أنهى عم فكري كلامه قائلاً: "كذلك ضمت المكتبة الكثير من المثقفين والأكاديميين الكبار، فكانت في وقت من الأوقات مجلساً لنجيب محفوظ وطه حسين وعباس العقاد، وغيرهم من الكُتّاب، حيث يقضون فيها يومياً ساعات من النهار يتصفحون الكتب، ويتناقشون حول كل جديد، فكانت محفلاً ثقافياً مصغراً".

عم فكري: "ها نحن قد وصلنا... اركن هنا".

في مكتبة الأنجلو المصرية، وقف الأستاذ صبحي جريس، بين أربعة حيطان عليها أرفف مليئة بالكتب، من الأرض إلى السقف.

بعد أن رحب بي الأستاذ صبحي جريس عرفته على نفسي، وإذا به ينبهر بصبيّ بعمر الثالثة عشرة لديه مكتبة خاصة في ذلك العمر، وذلك الجزء من العالم، وذلك الوضع من الزمن.

أخذ الأستاذ صبحي جريس يفتح ينابيع المعرفة التي اكتنزها على مر السنين، وأنا أحاول أن أعرض عليه أن يدلني على الطريق الصحيح الذي أسلكه للوصول إلى أصول الثقافة والعلوم الأخرى المرافقة لها.

قال الأستاذ صبحي جريس: افتتن الأوروبيون بإنجلترا، وأصبحوا يحلمون بما لها من البحث العلمي والحركة الفكرية التي أسسها شكسبير «Shakespeare» (1564 1616)، وللتنافس الشديد بين فرنسا وإنجلترا في تلك الفترة، تقدمت فرنسا بعلمائها ومفكريها في ذلك العصر، القرن الثامن عشر، حيث أطلق عليه "قرن الأنوار" التي تعني نهاية الظلمات.

أضاف الأستاذ صبحي جريس قائلاً: من جانبي سأختار لك مجموعة من الكتب وسأرسلها مع فكري، أما الأماكن التي يجب أن تزورها فأنصحك أن تبدأ بالمجمع العلمي المصري فستجد الثقافة الفرنسية هناك. وسلمني رسالة إلى إدارة المجمع، كتب فيها: "يهمني أمره".

بدأت البحث عن الثقافة والمعرفة والتراث في جميع أماكنها في القاهرة، وعلى مدى خمس سنوات لم أترك مكاناً به معرفة إلّا وأقمت فيه ساعات من القراءة والبحث.

بعد أن عدت إلى الشارقة لم تنقطع صلتي بالمجمع العلمي المصري وكذلك بمكتبة الأنجلو المصرية. المجمع العلمي المصري: أسسه نابليون بونابرت «Napoleon Bonapart» تحت اسم «المعهد المصري» في فترة الاحتلال الفرنسي لمصر (1798 1799).

كانت معظم كتب المجمع العلمي المصري قد جلبت إليه عن طريق المعهد الفرنسي في باريس، فتوجهت إلى هناك، فوجدت بحراً من الكتب، في جميع أبواب العلم تقدر بستمئة ألف كتاب. يعود أصل ذلك المعهد لمقتنيات كاردنال مازارين «Cardinal Mazarin» (16021661)، رئيس وزراء لويس الرابع عشر «Louis XIV» (بين عام 1643 وعام 1661).

كنت في حيرة من أمري، كيف أبدأ؟

تعرفت على أصحاب محال بيع الكتب القديمة في باريس، فعثرت في أحد تلك المحال على ثلاثة مجلدات تحت عنوان: المعهد المصري – فهرس قائمة الكتب (1859 1927)، وقد تم تسجيل عشرة آلاف كتاب، ومن ذلك الفهرس بدأت أجمع الكتب التي جاء ذكرها في ذلك الفهرس.

كانت نيتي أن أكوّن مجمعاً شبيهاً بالمجمع المصري أو المعهد الفرنسي، فكان لي ما تمنيت، فقد جمعت عشرة آلاف كتاب على مدى عدة سنوات، وأطلقت عليه مجمع الشارقة العلمي. وقلت هو ثالثة الأثافي، والأثافي هي ثلاثة أحجار يوضع عليها القدر، ولو أزيح أي حجر ينقلب القدر.

في يوم شؤم، احترق المجمع العلمي المصري في القاهرة في مساء يوم السبت الموافق السابع عشر من شهر ديسمبر عام 2011، وإذا بي أصرخ من باريس...: لا تجزعوا ولا تحزنوا فكل كتاب يحترق في المجمع لديّ نسخة مثله في مكتبتي.

قال بعضهم: يكذب... وقال آخرون: يبالغ، وقيل: يريد أن يُهدئ الناس.

حتى إذا ما اكتملت إعادة بناء المجمع العلمي المصري، التي لم تستغرق إلّا عدة أسابيع، تمّ شحن كتب مجمع الشارقة العلمي، ثالثة الأثافي، وكانت محتوياته عشرة آلاف كتاب، تحت سبعة آلاف وثمانمائة وثمانية وثمانين عنواناً، كما جاءت في فهرس كتب المجمع العلمي المصري في القاهرة.

رغب بعض المسؤولين بوضع ختم "دارة الدكتور سلطان القاسمي"، على كل كتاب، فقلت: حسنة وفيها سيئة، للمصريين عليّ دَين، "لهم يدٌ سلفت ودَين مستحق"، فكانت الكتب كما كانت سابقاً.

بعد أن تمّ شحن الكتب إلى القاهرة وتأكدت أنها وضعت على الأرفف في المجمع العلمي بالقاهرة، سارعت باقتناء نفس المجموعة المكوّنة لمجمع الشارقة العلمي سابقاً، بعد أن أمضيت في اقتنائها ثلاث عشرة سنة، لإقامة مجمع الشارقة العلمي، ثالثة الأثافي، الذي هو الآن تحت التأسيس.

الدكتور سلطان بن محمد القاسمي

نقلاً عن صحيفة الخليج الإماراتية

June 03, 2024 / 9:26 AM

أخبار ذات صلة

Rotate For an optimal experience, please
rotate your device to portrait mode.