تلاحق سياسة الاستيعاب الجائرة، بحق السكان الأصليين، كندا في حاضرها، وقد لا يصدق البعض أن المعاملة القاسية التي تعرض لها الأطفال في المدارس الداخلية، والتي تصل لحد "الإبادة الثقافية"، قد حصلت فعلاً في بلد مثل كندا الذي يعتد بأنه معقل للديموقراطية والسلام واللطف.
الشارقة 24 – أ ف ب:
في عام 1969 انقلبت حياة جيمي ابن الخمس سنوات حينها، عندما فصل عن عائلته من السكان الأصليين، وأرغم على مغادرة غابات كندا، ليدخل مدرسة داخلية في كيبيك، حيث ستحاول السلطات محو هويته في مسعى لاستيعاب هذه المجتمعات.
يومها رفض جيمي الصعود إلى الحافلة متشبثاً بتنورة جدته إلا أن شرطياً دفع السيدة المسنة وحمله ليضعه بعد دقائق قليلة في حافلة إلى جانب أطفال آخرين من هنود القارة الأميركية، وسط الصراخ والبكاء، بدأت الرحلة التي غيرت حياته كلياً.
فقد نُقل على بعد كيلومترات قليلة من دياره إلى "المدرسة الداخلية الهندية"، في سان-مارك-دو فيغيري، في مقاطعة كيبيك على بعد 600 كيلومتر شمال مونتريال.
في غضون ساعات اتضحت الصورة بالنسبة لهؤلاء الأطفال من السكان الأصليين، الذين انتزعوا من عائلاتهم بأمر من الحكومة الكندية، فقد قُص شعرهم الذي اعتادوا إطالته كجزء من تقاليدهم، وأخضعوا لحمام باستخدام فرشاة قاسية، إذ كانوا يعتبرون "هنوداً قذرين".
اضطر هؤلاء الأطفال إلى التخلي عن ملابسهم التقليدية ليرتدوا زياً موحداً، وكان القيِّمون على المدرسة يتوجهون إليهم بالفرنسية، التي لا يتقنونها فيما حُظر عليهم التحدث بلغتهم الأم.
وفي نهاية هذا اليوم الطويل، سحب منهم اسمهم وباتوا مجرد... رقم.
يروي جيمي باباتي 57 عاماً، وهو جالس في مطعم قرب موقع المدرسة الداخلية التي هُدمت: "كنا نجهل إلى أين نحن متوجهون وماذا سيحل بنا، في غضون ساعات قليلة حصلت عملية اقتلاع شاملة لغوية وثقافية وروحية".
بات هذا الرجل وهو زعيم الجماعة التي ينتمي إليها سابقاً، مع شعره القصير والأوشام التي تغطي ذراعيه، يتحدث عن هذه المرحلة "الرهيبة" من دون مواربة.
حتى الثمانينات كانت هذه المدارس الداخلية التي ظهرت أولاً في القرن التاسع عشر، حجر الأساس في سياسة استيعاب الهنود الذين يشكلون اليوم 5 % من السكان.
لكنها الآن توصف بأنها أداة لممارسة "إبادة ثقافية"، فيما عادت هذه الصفحة القاتمة في التاريخ الكندي إلى الواجهة بعد اكتشاف أكثر من ألف قبر مجهول الهوية قرب مدارس داخلية سابقة كهذه في الأشهر الأخيرة، وخلفت هذه الاكتشافات صدمة كبيرة في البلاد.
أرسل ما مجموعه 150 ألف طفل من اسكيمو كندا والخلاسيين وأبناء الأمم الأولى، إلى 139 مؤسسة كهذه في البلاد تديرها الكنائس.
وعند بدء كل موسم دراسي، كان مسؤول الشؤون الهندية يقوم برفقة عناصر من الشرطة بجولة على جماعات السكان الأصليين لاصطحاب الصغار، ومنذ العام 1920 وتعديل قانون حول هنود البلاد لم تعد موافقة الأهل ضرورية.
وكان الهدف من هذه المؤسسات، توفير الدراسة للأطفال وتبشيرهم واستيعابهم.
وفي غالب الأحيان كان الأطفال يتعرضون للعنف وحتى لانتهاكات، وقد قضى آلاف منهم جراء سوء التغذية والأمراض وسوء المعاملة.
يروي فريد كيستابيش 77 عاماً: "في المدرسة الداخلية لم يعد لي اسم، كنت الرقم 70"، وهو غالباً ما يأتي لزيارة موقع مدرسة سان-مارك-دو فيغيري، حيث بقي عشر سنوات.
لم يبق من المدرسة الآن إلا بضع حجارة يكسوها العشب، وقد أقيم نصب تذكاري صغير في المكان، ووضعت فيه صور بالأسود والأبيض لتلاميذ، وقد وضعت عشرات الأحذية الصغيرة أمام النصب لترمز إلى الأطفال الذين أسيئت معاملتهم في هذه المؤسسات، والذين قضوا فيها.
ويتابع كيستابيش وهو يزور الموقع الذي تغطيه الثلوج مستعيناً بعصا "هنا أصبحت شخصاً آخر، لكنهم لم يتمكنوا من تغييري بالكامل".
ويذكر الزعيم السابق لمحمية بيكوغان الواقعة على بعد كيلومترات قليلة من المدرسة الداخلية أن "الأصعب" كان رؤية شقيقاته من دون أن يسمح له بالتكلم معهن، ويضيف "عندما كن يرونني في مقصف المدرسة كن يبكين... هذا كان صعباً جداً".
عانت آليس موات من الوحدة، عندما وُضعت في هذه المدرسة بين سن السادسة والثالثة عشرة.
وبعد سنوات على ذلك دونت في دفاتر يوميات، أصعب المحطات خلال طفولتها في المدرسة الداخلية "حتى لا أنسى... حتى أتحرر منها".
في الصفحات الأولى تصف بدقة صدمة الوصول كاتبة "لا أذكر الطريق المؤدي إلى المدرسة أظن أنني كنت أتبع شقيقاتي، لكن عند الوصول تم توزيعنا على فئات عمرية، وعندها أدركت بأنني سأكون الآن بمفردي".
وتروي أمينة المكتبة السابقة هذه، صاحبة الشعر الأشيب الطويل البالغة 73 عاماً "كنت عندها في السادسة ولا أعرف الفرنسية بتاتاً، هذه كانت أصعب لحظات حياتي".
حولها في مطبخ مسكنها كل قطعة وكل أداة تحمل قصاصة لاصقة كتب عليها اسمها بالنيشينابي لغتها الأم، وتؤكد "أفعل ذلك من أجل أحفادي، لكي يبقى لهم بعض الكلمات من لغتنا".
في المدارس الداخلية هذه نسي الكثير من الأطفال لغتهم، فيما لزم بعضهم الصمت مدة أشهر، فالنطق بلغة غير الفرنسية أو الإنجليزية كانت نتيجته العقاب.
وكان الأطفال يتعرضون للضرب بالمسطرة والحزام، أو يعاقبون باحتجازهم في خزانة مدة أيام، مع صابونة في فمهم.
وتوضح دون هيل 72 عاماً، أن القصاص كان يأتي "لأننا كنا نتكلم عندما لم يكن ذلك مسموحاً، لأننا لم نرتب الأغراض بالسرعة المطلوبة، لأننا لم نخرج من السرير بالسرعة المطلوبة، كانت لديهم 50 مليون ذريعة لضربنا".
وقدم آلاف الناجين إفادات حول الفظاعات المرتكبة في هذه المؤسسات، التي كان الهدف منها "قتل الهندي في قلب الطفل"، أمام لجنة الحقيقة والمصالحة التي شكلت عام 2008.
بعد تحقيق استمر سبع سنوات وآلاف جلسات الاستماع ألقت هذه اللجنة الضوء على هذه المرحلة التي يجهلها الكثير من الكنديين وخلصت إلى حصول "إبادة ثقافية".
وشيئا فشيئاً بدأت كندا ترفع الستارة عن هذه المرحلة، ففي عام 2008 قدم رئيس الوزراء المحافظ ستيفن هاربر اعتذارات، وكذلك فعل رئيس الوزراء الحالي جاستن ترودو عام 2015.