الشارقة 24:
لقاء "مقيمون في الدار".. الفقرة التي اختارتها دار الشعر بمراكش، للمزيد من الانفتاح على التجارب الشعرية المغربية وعلى شجرة الشعر المغربي الوارفة بالعطاء، في لقاء لأصوات شعرية من أجيال مختلفة، جمع لطيفة المسكيني، ومحمد بوجبيري، وإسماعيل آيت إيدير، إذ التقوا جميعاً بمقر دار الشعر بمراكش مساء الاثنين.
شكلت فقرة "مقيمون في الدار" ديواناً مصغراً من تجربة الشعر المغربي الحديث، أصوات شعرية قدمت قصائد تحتفي بالدهشة والصفاء الإنساني، اختار الشاعر محمد بوجبيري، أحد رواد مرحلة الثمانينيات، أن يخص جمهور دار الشعر بمراكش، بنصوص جديدة تسافر في "أسئلة القلق الوجودي".
فيما ظلت الشاعرة لطيفة المسكيني، الصوت الشعري التسعيني، عبر تجربتها الشعرية تستقصي من خلال نصوصها "الصفاء الإنساني" في أرقى تجلياته، واختتم الشاعر الشاب إسماعيل أيت إيدار، من شعراء الألفية الجديدة وأحد إشراقات "الموسم الرابع لورشات الكتابة الشعرية للدار"، ديوان "مقيمون في الدار" بقصائد من "مجازات الدهشة".
الشاعرة لطيفة المسكيني "مواليد مدينة فاس"، حاصلة على الدكتوراه في الأدب العربي في موضوع "الحداثة والصوفية"، واستطاعت أن تكرس اسمها ضمن شجرة الشعر المغربي من خلال ما راكمته من منجز شعري ونقدي "السفر المنسي، حناجرها عمياء، قزحيات الصمت، فتنة غياب، طروس"، افتتحت ديوان "مقيمون في الدار" بقصائد من فتنة غياب وطروس، وتظهر قدرة الشاعرة على "ترويض اللغة"، وانفتاح على كينونة تتحلل في الصفاء الإنساني.
"عرافة الاستعارة" كانت إحدى قصائد لطيفة المسكيني قالت فيها :
من كِتَابُ الوَهْمِ: "َكَلَّفَنِي الوَهْم، اشْتَبَهَتْ عَلَيَّ المَطَالِعُ وَالأَسْمَاءُ، مُرْ هَذِهِ السَّاهِرَةَ أَنْ تَغْفُو، أَوْ تَخْرُجَ لأِوْهَامِهَا، ورودٌ عَطْشَى، تُبَرْعِمُ بِثَنَايَاكَ، تَجِدْكَ ذَرَّاتِ المَاءِ وَالهَوَاءِ، الطِّينَ وَهذا اللَّهَب، وَهْماً، تَجَمَّعَتْ فِيكَ أَشْكَالُهُ، تَجِدْكَ اللاَّمَلاَمِحَ، اللاَّصِفَاتِ، بَقَايَا نَفَسٍ مُتَعَبِّدٍ، فِي الذُّهُولِ، في الغُرْبَةِ، تَجِدْكَ رَحيلاً، مَوطِنُه خُطَاهُ".
ثم نثر الشاعر محمد بوجبيري "من مواليد سنة 1956 بأزيلال"، أحد الأصوات اللافتة في المشهد الشعري بالمغرب منذ ثمانينيات القرن الماضي، وإحدى التجارب التي طبعت مسار تشكل القصيدة المغربية الحديثة، قصائد حديثة من منجزه الشعري الذي ميز تجربته الإبداعية، رسم الشاعر لنفسه طريقه الخاص إلى القصيدة، تلك التي يراها تنتقل من "الشيء البسيط لتحوله من العابر في اليومي الى المقيم في اللانهائي".
حيث تتحول الحكمة لديه الى مصالحة مع الذات. الشاعر محمد بوجبيري صاحب دواوين "عاريا أحضنك أيها الطين"/1989، "لن أوبخ أخطائي 2006"، كما لو أن الحياة كانت تصفق 2017"، أفرد لتجربته الشعرية اليوم أفقاً ينفتح على مجازات الدهشة، وانفتاح على أسئلة الوجود.
ومن مقاطعه الشعرية:
"أدرك أن جمر الجهات خبا بين إقبال بلا معنى، وإدبار ماتبقى من يقين، أدرك أن الوجود، حين لا يكون بالأدنى المطلوب، يفصل نزعه كي يستقيم في منحى آخر، وَأَعودُ، لِأَنِّني الْماضي، وَالْحاضِر، وَما سَيَأْتي. أَنْبَسِطُ فيكَ امْتِدادًا كَالسَّهْلِ، وَشامِخَةً أَسْمو كَالْجَبَلِ. كُلَّما اِبْتَعَدْتُ اِزْدَدْتُ حُضورًا، كَما لَوْ أَنَّ دَيْدَنَ الْمَسافَةِ الشَّوْقُ وَالْحَنينُ، وَكُلَّما حَضَرْتُ ذابَ في القُرْبِ الْوِصال. أَسْطورَتُك أَنا في التَّحابِّ، وَأَيْقونَتُكَ بَيْنَ الْأَنام. وَعالِقًا تَظَلُّ في أَرْخَبيلٍ مِنْ خَيالٍ، أَوْ تَسْهَرُ عَلى شَطِّ مِنْ شُطْآنِ الْمَجاز. تُسْحِرُكَ الّلغَةُ، فَتَهيمُ باحِثًا في بَرِّيَّةِ الْمَعْنى عَنْ فَهْمٍ يَليق".
وأخيراً مع اسماعيل أيت إيدار، شاعر يأتي من المستقبل، من الأصوات الشعرية الجديدة التي تنتمي لمطلع الألفية الجديدة، من مواليد 1998، أحد إشراقات دار الشعر بمراكش، الذين تشربوا من معين "ورشات الكتابة الشعرية".
استطاع الشاعر إيت إيدار أن يكتب قصيدة تشبهه، "مرايا" من تفاصيل اليومي بلغة "لا تتكلف" وتنفتح على مجازات الدهشة.
وهذا مقطع من إحدى قصائده :
"حتما ستكبر أيها الشاعر، ولكن دونما ضجة أو جلبة، سيعيدون نارك إلى موقدها الأول، ستكبر في عين الشمس مثل رضيع، وحتما سيقطعونك مثل شجرة الميلاد، وئيداً، وئيداً ستشيخ، في الطريق دائماً موت بطيء، وحلم منتظر، على غير العادة ستصاب بالدوار، من شدة اليأس، لأنك أطلقت كلمة، كان يجب أن تصيب القلب في مقتل، فأصابت الطيور".
ثلاثة أجيال شعرية خطت ديوان فقرة "مقيمون في الدار"، في لقاء ماتع يحمل الكثير من الدلالة في قدرة القصيدة المغربية الحديثة على نسج أفقها واستمراريتها، من ماضيها إلى راهنها إلى فتح كوة على المستقبل. وهي محطة أخرى من برمجة دار الشعر بمراكش، لمزيد من الإنصات لراهن المنجز الشعري المغربي، وأصواته المتعددة، وأيضاً في قدرة الدار على خلق الاستثناء، رغم الوضعية الوبائية التي يعيشها العالم.