وتأتي الوصية الجامعة التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه والمتمثلة في قوله: "يسروا ولا تعسروا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا"، أقول تأتي هذه الوصية النبوية لتبين معالم الطريق الحقة لهذه الرسالة.
إنها رسالة التيسير لا التعسير، والتبشير لا التنفير.
إنها رسالة الرفق لا العنف، والحلم لا الجهل.
افعل ولا حرج
ولقد طبق النبي صلى الله عليه وسلم هذين المبدأين تطبيقاً عملياً في عشرات من المواقف ليترك للدعاة من بعده صوراً يُقتدى بها، ونماذج يُهتدى بها.
ومن ذلك ما جاء عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَقَفَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءهُ رَجُلٌ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ؟ فَقَالَ: اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ، فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ: ارْمِ وَلاَ حَرَجَ، فَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ.
إن نهاية هذا الحديث تبين أن هذه الجملة النبوية "افعل ولا حرج" لا تمثل جواباً عن مسألة ما من المسائل الشرعية بقدر ما تمثل قاعدة عظيمة من قواعد هذا الدين الخاتم.
إنما بُعثتم ميسيرين.
وحين كان تكرار المعنى الواحد بأكثر من صيغة يقويه في النفس، ويرسخه في الذهن، ويعمقه في الوجدان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كرر الإيصاء بالتيسير بصيغة أخرى ربط فيها ربطاً واضحاً بينه وبين حقيقة بعثته صلى الله عليه وسلم فقال موجها أصحابه، ومبينا لهم معالم رسالته: "فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".
حولها ندندن
ومن صور التيسير التي رأيناها في طريق الهداية النبوية أن رجلاً شق عليه حفظ الأذكار والأدعية التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقولها في صلاته، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلاّ أن فتح له باباً من أبواب التيسير في هذا الأمر، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَجُلٍ: "مَا تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ؟ " قَالَ: أَتَشَهَّدُ، ثُمَّ أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِهِ مِنْ النَّارِ، أَمَا وَاللَّهِ مَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ، و (الدندنة أي: الكلام الخفي) فَقَالَ: "حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ.
إن التيسير ورفع الحرج كان ملمحاً عظيماً من الملامح الإنسانية في منهج الهداية النبوية، وإنه ملمح أنِست به الأنفس، وسعِدت به الأرواح، وإنه ملمح اطمأنت به القلوب، وقنعت به العقول، فأقبل الناس على هذا الدين العظيم من كل صوب وحدب يتلمسون المزيد من أنور حكمته، وينعمون بالمزيد من مواطن إنسانيته.