جار التحميل...
الشارقة 24:
في كل زاوية من زوايا معرض الشارقة الدولي للكتاب، ثمة حكاية تولد بين قارئ وكتاب، ومشهدٌ صغير يختصر المعنى الكبير لشعار دورته الـ 44 "بينك وبين الكتاب".
فمن بين آلاف العناوين والوجوه والأفكار، تتشكل فسيفساء إنسانية تصنعها لحظات الدهشة الأولى، حين يفتح الزائر صفحةً، أو يلمح عنوانًا يشبهه في شيءٍ ما. تسير في الأروقة، فتسمع لغاتٍ مختلفة تتوحّد في حب القراءة، ترى طفلًا يضمّ كتابه كما يضمّ لعبةً اكتشفها توًّا، وشابًّا يقف مأخوذًا أمام رفٍّ من كتب التنمية البشرية يبحث بينها عن فكرة تضيء طريقه، وسيدةً تبتسم لصفحةٍ تشبه ذاكرتها القديمة.
لا صوت يعلو هنا على صوت الورق وهو يُقلب، ولا رائحة تتقدّم على عبق الحبر الذي يصنع ذاكرة المكان. في هذا الفضاء الممتد لا تُباع الكتب فحسب، بل تُستعاد معها الثقة بالمعرفة كقيمةٍ تضيء الوعي الإنساني، وتعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان ونفسه والعالم من حوله.
ومن بين آلاف الزوار الذين يملؤون القاعات كلّ يوم، يخرج البعض وفي أيديهم أكثر من كتاب، لكن في داخلهم أكثر من تجربة. هناك من يجد في القراءة عزاءً، ومن يكتشف فيها طريقًا جديدًا للبدء من الصفر.
في المعرض، تتجاور كتب الأدب والفكر والتنمية والطفولة كأنها خرائط متقاطعة للروح، وكلّ قارئٍ يعبرها على طريقته الخاصة. ومن بين تلك الأصوات التي تنتمي إلى مشهدٍ إنساني أكبر، برزت حكايات أربعة قراء، لكلٍّ منهم قصة مختلفة مع كتابٍ غيّر نظرته إلى الحياة.
كانت الطالبة عالية أحمد مثالًا على هذا اللقاء الإنساني مع الكتب، إذ لم تتعامل مع القراءة كتسلية عابرة، بل كعلاجٍ خفيّ أنقذها من العزلة. تقول وهي تمسك بكتابها المفضل كما لو كان صديقًا قديمًا: "قرأت كتاباً محاطاً بالنعم، فشعرت أنني أنا من تكتب، وأن القصة تشبه حياتي تمامًا". ذلك الكتاب الذي حمل عنوانًا بسيطًا لكنه عميق، كان نقطة التحوّل في رحلتها النفسية. كانت تمرّ بفترة من الانطفاء الداخلي، حتى وقعت على الصفحات التي تتحدث عن الامتنان وإدراك ما حولنا من خيرٍ لا يُرى إلا حين نتوقف عن الركض.
تضيف بابتسامة هادئة: "علّمني الكتاب أن أرى ما بين يدي قبل أن أبحث عمّا أفتقده". ومن القراءة بدأت رحلتها نحو الكتابة، إذ قرّرت بعد انتهاء الكتاب أن تدوّن تجربتها الشخصية في كتيبٍ رقمي تسرد فيه تحوّلها من العزلة إلى الضوء. تقول: "كنت أختبئ دائمًا وقت حصة التعبير، لا أجرؤ على الكلام، لكن القراءة جعلتني أتكلم، جعلتني أكتب". بالنسبة لعالية، لم يكن الكتاب مجرد صفحات، بل مرآة انعكست عليها ذاتها الجديدة؛ طفلة صارت تكتب لتتعافى، وتتعافى لتكتب.
وعلى مقربةٍ من جناح الأدب التنموي، كانت أمينة المكتبة سلمى بسيوني تتحدث بابتسامة دافئة عن كتابٍ آخر، قائلة: "معجزات الزبد هو الكتاب الذي جعلني أؤمن أن لا شيء مستحيل". ورغم بساطة عبارتها، إلا أن عينيها اللامعتين تختصران عمق العلاقة بين الإنسان والكتب التي تلمسه بصدق.
وفي أحد الأجنحة المقابلة وقف الدكتور ميسر الطائي من كلية إدارة الأعمال بجامعة الشارقة، متحدثًا عن الكتاب الذي يراه دليلاً عمليًا لبناء الشخصية القيادية، قائلاً: "الكتاب الذي أرشحه دائمًا لطلابي هو العادات السبع للأشخاص الأكثر كفاءة في العالم، فهو من أجمل الكتب التي تقدم سبع قواعد عملية يمكن أن يتبناها أي إنسان يسعى إلى النجاح في عمله".
ويضيف: "أعتقد أن شباب اليوم في حاجة حقيقية إلى مثل هذه الكتب التي تنمّي الوعي بالمسؤولية، وتنظّم التفكير وتدعم مهاراتهم في الحياة العملية". بالنسبة للطائي، لا يقف تأثير القراءة عند حدود المعرفة النظرية، بل يتجاوزها إلى بناء منظومة القيم والعمل والإتقان.
وفي الجناح ذاته، تحدث الدكتور محمد قاسم شبول من جامعة الشارقة عن كتابٍ آخر اختاره من رفوف الإدارة والتنمية الذاتية، قائلاً: "الكتاب الذي أعتبره من أكثر الكتب فائدة هو كيف تصبح مديرًا ناجحًا، لأن ما يحتويه من نصائح وتجارب يجعل أي شخص، حتى لو لم يكن في موقع إداري، قادرًا على تطوير مهارات القيادة لديه".
ويضيف: "هذا النوع من الكتب لا يخصّ المديرين وحدهم، بل أي فرد يسعى إلى تنظيم وقته أو قيادة فريق صغير أو تحسين طريقة تعامله مع الآخرين، سواء في العمل، أو في الحياة".
هكذا تتعدد الأصوات وتتنوع الحكايات، لكن القاسم المشترك بينها جميعًا هو الإيمان بقوة الكتاب على التغيير. فبين صفحات الأدب والتنمية والفكر والعلاج، يكتشف الزوار في معرض الشارقة الدولي للكتاب أن القراءة ليست هوايةً فقط، بل تجربة وجودية تعيد الإنسان إلى نفسه، وتدفعه لأن يرى العالم بعينٍ أوسع. وفي هذا الفضاء الذي يحتفي بالحرف والمعنى، تواصل الشارقة كتابة فصلٍ جديد من قصتها مع الكتاب؛ فصلٍ تصنعه وجوهٌ مختلفة يجمعها شغف واحد: الإيمان بأن الكلمات قادرة على أن تغيّر الحياة.