يهدد نضوب مياه الأهوار في جنوب العراق، بسبب الجفاف وارتفاع درجات الحرارة وشح الأمطار والسدود التي بنتها تركيا وسوريا على نهري الفرات ودجلة، بتلاشي حضارة معدان الأهوار، أو عرب الأهوار، الذين يعيشون على صيد الأسماك والحيوانات، وتمتدّ جذور حضارتهم إلى 5 آلاف عام في هذه المنطقة التي صنفتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو" في 2016، تراثاً عالمياً.
الشارقة 24 – أ ف ب:
في ماضٍ كان أشبه بالحلم، كان محمد حميد نور يمتلك قطيعاً من نحو مئة جاموس، لكن أهوار جنوب العراق التاريخية جفّت، ومعها تضاءلت أعداد حيواناته بشكل كبير.
من السماء، يبدو منظر الأهوار الوسطى في الجبايش مأسوياً، فقد تبقى فقط مسطحات قليلة من المياه، تتصل في ما بينها بممرات مائية نمت من حولها نباتات القصب، وفي المساحات التي تراجعت فيها المياه، ظهرت أرض جرداء أشبه بجلد غزته التجاعيد.
وللسنة الرابعة على التوالي، يلقي الجفاف بظلاله الثقيلة على الأهوار، ويقضي بطريقه على الجواميس التي يستخدم حليبها في إعداد قشطة "القيمر" المحبّبة لدى العراقيين.
وتحت سماء زرقاء لا تبشر بهطول أمطار قريباً، يتأمل محمد حميد نور البالغ من العمر 23 عاماً، المشهد الكارثي، وأمام قساوة الواقع، يترجّى الله قائلاً "تبقى فقط رحمة الله"، فخلال بضعة أشهر فقط، فقد الشاب ثلاثة أرباع قطيعه من الجواميس، منها ما نفق، ومنها ما اضطر على بيعه.
ومع استفحال الجفاف في الأهوار، ترتفع نسبة الملوحة في المياه، وتنفق الحيوانات التي تشرب من منابع تكون فيها الملوحة عالية جداً.
ويضيف الرجل، هذا العام، إذا بقي الجفاف وإذا لم تساعدنا الدولة، لن نجد من جواميسنا المتبقية، واحدة.
وأعلنت الأمم المتحدة، خلال الأسبوع الحالي، أن موجة الجفاف الحالية هي الأسوأ منذ 40 عاماً، وأن الوضع مقلق على صعيد الأهوار التي خلا 70 % منها من المياه.
أهوار بلاد ما بين النهرين، مساحات رطبة موزعة بين الجبايش والحويزة والحمّار، تصنفها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو" في 2016، تراثاً عالمياً.
إلا أنها تتلاشى ومعها حضارة معدان الأهوار، أو عرب الأهوار، الذين يعيشون على صيد الأسماك والحيوانات وتمتدّ جذور حضارتهم في أرض الأهوار إلى 5 آلاف عام.
وتشير آخر التقديرات، إلى أن مساحة الأهوار تبلغ اليوم نحو 4 آلاف كيلومتر مربع، بتراجع عن 20 ألف كيلومتر مربع خلال تسعينات القرن الماضي، ولا يزال يقطنها نحو بضعة آلاف من المعدان فقط.
ويعود هذا التراجع خصوصاً، إلى ارتفاع درجات الحرارة وشح الأمطار، ما دفع في السنوات الأربع الأخيرة الأهوار نحو الخراب، فيما كانت تعاني أصلاً بفعل سدود بنتها الجارتان تركيا وإيران على نهري دجلة والفرات، بالإضافة إلى إدارة تقليدية للمياه يرى الخبراء أنها غير مناسبة.
وبلغت الحرارة في الأهوار الوسطى أواخر يونيو الماضي، 35 درجةً مئوية عند الفجر، لكنها لامست الخمسين خلال النهار.
وتصنّف الأمم المتحدة العراق، من بين الدول الخمس الأكثر تضرراً من بعض تداعيات التغير المناخي، فالأمطار قليلة جداً، وبحلول العام 2050، من المتوقع أن يزداد معدّل الحرارة السنوي بدرجتين ونصف الدرجة المئوية، وفق البنك الدولي.
ويتراجع مستوى الأهوار الوسطى ونهر الفرات، مصدر تغذيتها الرئيسي، بمعدّل نصف سنتمتر في اليوم، على ما يشرح المهندس جاسم الأسدي البالغ 66 عاماً والناشط البيئي المدافع عن الأهوار، من خلال منظمة "طبيعة العراق" غير الحكومية.
ويضيف الأسدي، خلال شهرين، ستكون درجات الحرارة مرتفعة جداً وسوف يزداد تبخّر المياه.
ويقيم محمد حميد نور مع جواميسه، على قطعة أرض انحسرت فيها المياه، ولإرواء حيواناته، يضطر الشاب إلى الذهاب في مركب إلى نقطة أعمق على درجة أدنى من الملوحة للتزود بالمياه، ويملأ حاويات مياه لنقلها إلى حيواناته.
وقبل ثلاثين عاماً، عرفت الأهوار أوّل موت لها، حينما قام صدام حسين بتجفيفها، فبعد الانتفاضة التي خرجت بعد حرب الخليج في العام 1991، اتخذ صدام قراراً بمطاردة المشاركين فيها حتى آخر زاوية في الأهوار.
وخلال أشهر فقط، تحوّلت أكثر من 90% من الأهوار إلى صحراء، وفق جاسم الأسدي، الذي أضاف حينها غادرت الغالبية العظمى من سكان المنطقة البالغ عددهم 250 ألف نسمة، المكان نحو مناطق أخرى في العراق، أو إلى السويد والولايات المتحدة.
بعد سقوط نظام صدام حسين في العام 2003، دبّت الحياة من جديد في الأهوار مع تدمير السدود والقنوات التي استخدمت لتجفيفها اصطناعياً، عادت المياه إلى الجريان، والزوارق للإبحار وسط الممرات المائية المحاطة بالقصب وبجزر يقطنها معدان الأهوار الذين عادوا إلى أرضهم، لكن، بعد عشرين عاماً على ذلك، يتبين من خلال جولة في الزورق، أن مستوى المياه فيها ينخفض بشكل متواصل.
ويشرح علي القريشي الخبير في الأهوار من جامعة بغداد التقنية، أنه في العراق، تراجع مستوى نهر الفرات بنحو 50% منذ السبعينات، ويعتبر أن الأسباب الرئيسة خلف ذلك موجودة في المنبع، عند الدول المجاورة، فقد بنت تركيا التي ينبع منها نهري دجلة والفرات، وكذلك سوريا وإيران اللتان يمر النهران بهما، الكثير من السدود على النهرين وروافدهما.
ويشكّل ملف المياه، مصدر توتر بين العراق وتركيا، وفي حين يطالب العراق أنقرة بالإفراج عن مزيد من المياه، أثار سفير تركيا في بغداد علي رضا غوناي الجدل في يوليو 2022 حينما اتهم العراقيين بأنهم يقومون بهدر المياه.
ومنذ العصور السومرية والأكادية، يستخدم المزارعون العراقيون، أسلوب الريّ بالغمر، والذي يعدّ إلى حدّ كبير مصدراً كبيراً لهدر المياه.
ويواجه العراق أيضاً، صعوبات في تأمين المياه للاحتياجات الزراعية، واضطرت السلطات لذلك إلى خفض المساحات المزروعة بشكل كبير، فالأولوية هي تأمين المياه للشرب لسكان البلاد البالغ عددهم 42 مليون نسمة.
وأكّد الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد، أن الحكومة اتخذت اجراءات هامة من أجل تحسين النظام المائي وإطلاق حوار مع الدول المجاورة.
ومع التقدّم في الأهوار الوسطى، يواجه الزورق صعوبة في مواصلة طريقه بسبب غياب المياه، وأصبح الشاطئ أرضاً صحراوية انحسرت فيها المياه قبل شهرين، على ما يروي يوسف مطلق، مربي الجواميس البالغ من العمر 20 عاماً، الذي غطّى وجهه بوشاح يقيه حرارة الشمس والغبار.
وكانت المنطقة تضمّ عشرة بيوت أو "مضيف" وهي مساكن تقليدية مصنوعة من القصب.
ويؤكد الشاب، أن المنطقة كانت ممتلئة، لكن عندما اختفت المياه، ذهب الناس جميعهم، متنهداً فيما ينظر إلى جواميسه التي كانت تمضغ الطعام المعبأ في الأكياس، نظراً لندرة العشب والنباتات الخضراء في الأهوار.
وإضافة إلى الملوحة، يزيد التلوث الوضع سوءاً، فعلى امتداد المدن التي يمرّ بها نهر الفرات، تساهم الملوثات من مبيدات حشرية ومياه صرف صحي ونفايات المصانع أو المستشفيات، في تفاقم الوضع، على يشرح نظير عبود فزع، الأستاذ في جامعة بغداد والمختص بالتغير المناخي في العراق.
وتنتهي "رحلة" تلك الملوّثات في الأهوار الوسطى، حيث يضيف الخبير، قمنا بتحليل نوعية المياه ووجدنا العديد من الملوثات فيها، مثل المعادن الثقيلة التي تتسبب بأمراض.
وصيد الأسماك يموت ببطء أيضاً، ففي حين كان سمك البني الذي يزين المائدة العراقية ينتشر بكثافة، لم يعد يتواجد إلا بضعة أسماك صغيرة غير صالحة للأكل.
ومع العجز عن معالجة أسباب الجفاف، يسعى البعض إلى التخفيف من آثاره، فتنفّذ منظمة "زراعيون وبياطرة بلا حدود" غير الحكومية الفرنسية، مهمات دعم لصيادي الأسماك ومربي المواشي.
وفي أحد أيام يونيو الماضي، توجه بياطرة فرنسيون، إلى مزارع محاذية للأهوار الوسطى ليدربوا مربي الماشية العراقيين على الطرق الحديثة في تشخيص الأمراض لدى الأبقار والجواميس، التي تعاني خصوصاً من أمراض مرتبطة بالمياه.
ويروي إيرفيه بوتي، البيطري والخبير بالتنمية الريفية في المنظمة، أمضينا الصيف الماضي في توزيع مياه الشرب من أجل إمداد الحيوانات والناس في الأهوار، ويضيف بسبب ندرة المياه والقصب، أرغم الكثير من مربي المواشي على بيع أكبر عدد ممكن من الحيوانات بأسعار زهيدة، بسبب قانون العرض والطلب.
مع ذلك، تبقى مبادرات المجتمع المدني نادرة، إذ يعدّ المهندس جاسم الأسدي واحداً من قلّة يكافحون من أجل الحفاظ على الأهوار عبر محاولته لفت انتباه السلطات العامة، في ظل ظروف صعبة أحياناً نظراً لأن ملف المياه مسيّس في البلاد.
وفي وزارة الموارد المائية، يؤكد المتحدث، أن الوزارة تعمل بجدّ من أجل إحياء تلك المناطق الرطبة، لكن الأولوية هي توفير المياه للشرب وللاستخدامات المنزلية والزراعية، وبفعل ذلك، يستسلم الكثير من عرب الأهوار ويغادرون إلى المدن حيث يجري التعامل معهم كمنبوذين.
في أغسطس 2022، تحدّث فرع العراق في منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، عن نزوح سكاني لا سيما نحو مدينتي البصرة وبغداد.
وليد خضير البالغ من العمر 30 عاماً، واحد من هؤلاء الذين هجروا الأهوار نحو مدينة الجبايش القريبة، مع زوجته وأطفاله الستة، قبل أربعة أو خمسة أشهر، حيث يقطنون في بيت بحالة يرثى لها، حيث يضيف آسفاً، حياتنا هناك وأهلنا عاشوا هناك وأجدادنا، لكن ماذا نفعل؟ لم يعد هناك من حياة في الأهوار.
ويريد هذا الرجل الآن، تسمين جواميسه ليتمكن من بيعها، لكن أسعار الأعلاف التي كانت موجودة بوفرة سابقاً بالأهوار، باهظة كثيراً، ويقول إذا عادت المياه وعاد الوضع كما كان عليه سابقاً، نعود لنعيش هناك.