شهدت العاصمة العراقية بغداد في السنوات الأخيرة، فورة اقتصادية وسكانية جذبت إليها العديد من سكان المناطق الجنوبية الأكثر فقراً ما زاد الاكتظاظ السكاني، بعد عودة الهدوء نسبياً إليها، إثر سنوات من نزاع دامٍ، ما أدى إلى بروز ظاهرة الشوارع المغلقة والحواجز الأمنية وملايين السيارات، التي شلت حركة السير بالمدينة.
الشارقة 24 - أ ف ب:
في أحد أيّام بغداد الحارة، وقف سائق الأجرة الأربعيني أسامة محمد أمام سيارته الصفراء، وملامح التعب باديةٌ على وجهه في بداية مشواره المضني اليومي مع ازدحامات المدينة الخانقة المتفاقمة، بسبب تدهور البنى التحتية، وغياب النقل العام، والحواجز الأمنية.
يروي أسامة، فيما يقود سيارته "أشعر بالتعب، وأوّل ما يطالعك في الصباح هو الازدحام".
يمنع هذا الازدحام الحاد، أسامة من نقل أكثر من ثلاثة ركّاب في اليوم، فيما كان يقلّ خمسة إلى ستة قبل خمس سنوات.
وبغداد التي يبلغ عدد سكانها نحو 8 ملايين نسمة، تعاني من أزمة ازدحام مروري حديثةً نسبياً، لا تنفكّ تزداد سوءاً وتعقّد حياة السكّان.
وتتمحور يوميات أسامة، كما كلّ من يملك سيارةً في هذه المدينة المكتظة، على الهروب من الازدحامات، أو في نهاية المطاف، الاستسلام له، لا سيما في أوقات الذروة، أي في ساعات الصباح عند ذهاب الموظفين إلى أعمالهم أو عند عودتهم منها بعد الظهر، فلا مفرّ من الانتظار لساعات للوصول إلى أي وجهة.
بين عامي 2003 و2007، كان في بغداد "350 ألف سيارة"، بحسب محمد الربيعي الناطق الرسمي باسم أمانة بغداد، أما اليوم فقد وصل العدد إلى مليونين و500 ألف سيارة.
وتفيد منظمة "مستقبل العراق" للدراسات الاقتصادية، أنّ كلّ سيارة تحرق في اليوم خلال الازدحامات من الوقود ما يساوي مسير 20 كم، ما يعزز أيضاً تلوّث الهواء في العاصمة المكتظّة.
وشهدت المدينة في السنوات الأخيرة، فورة اقتصادية وسكانية جذبت إليها العديد من سكان المناطق الجنوبية الأكثر فقراً ما زاد الاكتظاظ السكاني، بعد عودة الهدوء نسبياً إليها إثر سنوات من نزاع دامٍ (2006-2008)، ومن ثمّ هجمات تنظيم "داعش" الإرهابي الذي تمّ دحره في 2017.
جذبت المدينة أيضاً، استثمارات أجنبية خصوصاً، وبدأت تظهر المجمعات السكنية فيها مؤخراً، ومبانٍ حديثة مثل مبنى المصرف المركزي قيد الإنشاء الذي صممته زها حديد.
ورغم ذلك، ما زالت المدينة التي تبلغ مساحتها 204 كيلومترات مربعة، تفتقر لإشارات المرور المفعّلة في معظم الشوارع، وفيما زادت أعداد السيارات بشكل هائل، لم تواكب البنى التحتية هذه التطورات.
يوضح شرطي المرور حسين، فيما وقف عاجزاً أمام الازدحام في شارع أبو نواس المطلّ على نهر دجلة في العاصمة، "شوارعنا لا تزال نفسها منذ العام 1963 لم تكبر ولم تتسع.. السيارات صارت أكثر من البشر".
فقد فتكت عقود طويلة من الحروب والأزمات ببنية العراق التحتية، لكن الفساد وسوء الإدارة، جعلا من عملية الإعمار والترميم مسألة شديدة الصعوبة أيضاً.
فكلّ المشاريع التي طرحت من أجل وضع حدّ لأزمة الازدحامات المرورية أو تخفيفها في مدينة تواصل النمو بشكل سريع، عبر البرلمان أو الحكومات المتتالية، لا تزال حبراً على ورق، أو أن غالبيتها لم يكتمل مثل مشروع "مترو بغداد" الذي يفترض، على غرار المدن الكبرى مثل باريس ونيويورك أو إسطنبول، أن يربط أطراف المدينة الواسعة.
ومن شأن المترو إذا تحوّل إلى واقع، أن يفكّ ضيق 40% من الازدحامات في بغداد، وفق الربيعي
وبدأ التخطيط للمشروع في العام 2011، وجرت حينها مساعٍ للتوصل إلى اتفاق مع شركة "ألستوم" الفرنسية لوضع تصاميمه الأساسية، لكن دون نتيجة.
وبعد عشر سنوات، في أكتوبر 2020، خلال زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إلى باريس، جرى توقيع مذكرة حسن نوايا بين ألستوم ووزارة النقل العراقية بشأن إنشاء قطار معلّق في بغداد.
لم يتقدّم مشروع القطار المعلّق الذي يفترض أن يمتدّ على 20 كلم ويضمّ 14 محطّة، وفق الربيعي، فيما أنفقت الآن 45 مليون دولار على مخططات هذا المشروع، وفق محافظ بغداد السابق فلاح الجزائري.
وأعلن وزير النقل العراقي مؤخراً، عن تخصيص ملياري دولار إضافية لأجل هذا المشروع ضمن موازنة العام الجاري التي لم تقرّ بعد، بسبب الأزمة السياسية، فلا يزال العراق حتى الآن من دون حكومة جديدة بعد 8 أشهر من الانتخابات التشريعية.
وفي مدينة كانت من أولى مدن الشرق الأوسط التي استخدمت فيها الحافلات ذات الطابقين قبل عقود، صار النقل العام الجماعي شبه غائب، باستثناء بعض الحافلات الصغيرة، ما يدفع غالبية السكان إلى التنقل بسياراتهم ويزيد الاختناق المروي.
أما حافلات الطابقين، فلم يبقَ إلا خطوط قليلة لها تعمل، وهي لا تتلاءم مع الشوارع والطرق الحالية.
قد يعدّ نهر دجلة الذي يعبر المدينة، حلّاً كذلك لمشكلة الازدحام في حال فعّل النقل النهري.
وتطل على دجلة المنطقة الخضراء المحصنة في وسط المدينة، حيث مقرات رئاسة الوزراء ومؤسسات حكومية وبعثات دبلوماسية.
ويبقى النقل النهري "حلماً"، يراود باسر الصفار، أحد سكان الكرادة في بغداد، ويوضح لن يتحقق، لأن من يسكن الخضراء يعتبر ذلك تهديداً لأمنه.