يسلط متحف الشارقة للحضارة الإسلامية التابع لهيئة الشارقة للمتاحف الضوء على تطور فن التجليد إبان العصر الأموي والعباسيوالعثماني ودوره الكبير في المحافظة على التراث العربي والإسلامي المكتوب.
الشارقة 24:
يروي متحف الشارقة للحضارة الإسلامية التابع لهيئة الشارقة للمتاحف فصولاً من مراحل تطور وازدهار الحضارة الإسلامية وإرثها الذي يُشكل مصدر جذب للسياح والزائرين والمهتمين من داخل الدولة وخارجها.
وضمن ما يزخر به من كنوز المعرفة، يسلط المتحف الضوء على حقبة تطور فن التجليد إبان العصر الأموي والعباسي والعثماني ودوره الكبير في المحافظة على التراث العربي والإسلامي المكتوب، حيث يقود زواره إلى بدايات التجليد في التقاليد الحبشية والقبطية واعتماده على حياكة الصفحات الداخلية للكتاب قبل استخدم ألواحٍ خشبية كغلاف واقي كانت تُثبت من الخلف بخيط رفيع من ليف النخيل.
ويستعرض المتحف عبر مجموعة زاخرة من المقتنيات التاريخية التطورات النوعية التي طرأت على هذا الفن على يد المسلمين الذين عملوا على إثرائه مع اتساع رقعة الفتوحات الإسلامية، وانتشار الإسلام في مناطق واسعة من العالم وزيادة اتصاله بالحضارات المختلفة للبلاد التي فتحها، والذي أدى بدوره الى تبادل المعارف والعلوم والفنون ومنها مفهوم التجليد الذي أخذ يتسع ويتطور حتى الوقت الحالي.
وشهد فن التجليد الذي عرفه المسلمون تطوراً مع بداية عصر الإسلام حيث كان القرآن الكريم أول كتاب يتم تجليده لغايات حفظه من التلف والاندثار والتحريف حيث كانت طريقة تجليده عبارة عن لوحين من الخشب مثبتين بخيط من ليف النخيل تحفظ بينهما الصفحات المخطوطة للمصحف، ليشهد هذا الفن لاحقاً رعاية خاصة في كل عصر من عصور الحضارة الإسلامية، مع ثبات الخصائص الفنية، حيث تميز التجليد في العصور الإسلامية المختلفة بالشكل الفني اللافت والزخرفة وطرق التذهيب، مما أضفى عليه قيمة مضافة جعلت منه فناً قائماً بذاته.
العصرين الأموي والعباسي الأول:
طرأت العديد من التطورات على فن التجليد إبان الخلافة الأموية فكانت باكورة لصعود نجم التجليد وازدهاره في العصر العباسي حيث تحول إلى صناعة فنية ثرية بالزخارف بعد استخدام المسلمين شرائح من الجلد لتغليف ألواح الخشب لتكون هذه المرحلة بداية جديدة لفن التجليد عند المسلمين، وقد تميزت المصاحف والمخطوطات في تلك الحقبة بكونها مغلفة بطبقة من لوحات خشبية تم تطعيمها بالعاج والقماش.
وفي القرنين الرابع والخامس الهجري - العاشر والحادي عشر الميلادي، أدخل المسلمون الورق وصحائف البردى في صناعة أغلفة الكتب، حيث أصبح شكل الكتاب عمودياً أو مربعاً مع إدخال اللسان عليه، أما في التصميم، فقد تميز بأشكال هندسية ونباتية إلى جانب الأشرطة المتشابكة.
وخلال الفترة بين القرن السادس والسابع الهجريين ازدهر استخدام الورق المغلف بالجلد في تجليد الكتب بعد الاستغناء عن البردي أو الخشب مع بروز ظاهرة استخدام صفائح الذهب المرصع بعضها بالأحجار الكريمة في تغليف المصاحف لا سيما المصاحف العائدة إلى الملوك والأمراء، وفيما يتعلق بشكل الكتاب فقد ساد استخدام الكتاب العمودي المزود باللسان عوضاً عن الشكل الأفقي.
التجليد العثماني:
ظهر فن التجليد التركي العثماني خلال القرنين الثامن والتاسع الهجريين - الرابع والخامس عشر الميلاديين عندما قام العثمانيون في الأناضول واتسعت رقعة إمبراطورتيهم في الشرق والغرب، ودانت لها البلاد الإسلامية كلها من آسيا الصغرى إلى مصر والشام وبلاد الحجاز وشمال إفريقيا.
ومنذ الأيام الأولى لتأسيس الإمبراطورية العثمانية عمل السلاطين على الاهتمام بالعلوم والفنون والصناعات ولا سيما فن الكتاب بما فيه من خط وتصوير وتذهيب وتجليد، وقد أسهم في نشوء هذا الفن الكثير من الصناع والفنانين الذين جِيء بهم من مصر والشام وإيران.
وشهدت تلك الفترة إنتاج أغلفة عثمانية غاية في الروعة والدقة، حيث أدخل الصانع على الغلاف جميع عناصر الجمال من زخارف متنوعة وألوان زاهية وتذهيبات أنيقة، واحتلت الزخارف النباتية مكان الصدارة في الأغلفة العثمانية، آخذةً شكلَ السُّرة مع الدلايتين، وفي الأركان الأربعة أجزاء من السرة.
وتُعد صفحات وأغلفة المصاحف التي تعود إلى ما بين القرنين السابع والعاشر الهجريين - الثالث والسادس عشر الميلاديين التي عُثر عليها في الجامع الأموي بدمشق وجامع القيروان بتونس وجامع صنعاء باليمن أول أمثلة على الكتب المزخرفة.
وقد شهد التجليد الإسلامي أوج تطوره مع انطلاق حركة تذهيب المخطوطات القرآنية وتجليدها بأغلفة مزخرفة، لا سيما مع تطور صناعة الكتاب وتحولها إلى استخدام الورق، الذي أحدث ثورة في عالم الكتاب الإسلامي وفي غلافه الذي بات غلافاً من الورق المقوى المُصنّع من عجينة البردي، "الكرتون الذي يتم تغطيته بالجلد"، وجعل هذا التطور من التجليد مهنة لها أصولها وقواعدها.
ويتميز هذا النوع بجماليته وانسيابية زخارفه وألوانه إذ يصنع الغلاف الخارجي المطوي ذو اللون البُني الغامق من الجلد مع اللسان، بينما تكون سُرته مختومة بزخارف غائرة ومُذهّبة بيضوية الشكل مع دلايتين، والبطانة الداخلية من ورق فن الإبرو باللون الوردي على الطراز التركي العثماني.
يشار إلى أن هيئة الشارقة للمتاحف تقود جهوداً كبيرة لتسليط الضوء على التطور الذي بدأته الحضارة الإسلامية في هذا الفن، والذي أسهم في تحويل المدن الاسلامية الى منارات ليس لتجليد الكتب وزخرفتها فحسب، بل لصناعة الكتب وتأليفها نظراً لاهتمام الإسلام بالعلوم والمعرفة باعتبارها أدوات الازدهار الرئيسية ومحراك النمو والتطور.
ويبقى فن التجليد عند المسلمين نتاج تبادل ثقافي لحضارات سبقتها وأبدعت في تغليف كتبها المقدسة كأقباط مصر وآسيا والبيزنطة، ومع انتشار رقعة الإسلام وتوسع الدولة اكتسب المسلمون من المعارف والعلوم والفنون الخاصة في فن التجليد ما جعلها رائدة في هذا المجال.