تشهد أيام الشارقة التراثية في يومها الثاني إقبالاً لافتاً من الجمهور وعشاق التراث العريق التي تمتزج مع ثقافة الحاضر بكل ما تحمله من تطور علمي وتكنولوجي لتؤكد أن المستقبل لا يصنعه إلا الفكر القويم القائم على القيم الراسخة من خلال امتزاج الماضي بالحاضر وتفاعلهما معاً.
الشارقة 24:
تواصل "أيام الشارقة التراثية" في نسختها التاسعة عشرة، ألقها الثقافي والفني والترفيهي الرائع في يومها الثاني وسط إقبال لافت من الجمهور وعشاق التراث العريق والثقافة الأصيلة التي تمتزج مع ثقافة الحاضر بكل ما تحمله من تطور علمي وتسارع تكنولوجي، ليؤكد بأن المستقبل لا يصنعه إلا الفكر القويم القائم على القيم الراسخة ومفاهيم التطلع للأفضل، من خلال امتزاج الماضي بالحاضر وتفاعلهما.
ويتضمن المهرجان في نسخته التاسعة عشرة العديد من الفعاليات والبرامج والأحداث المشوقة والحية التي تجمع بين تراث الشعوب وموروثهم الثقافي بتنظيم معهد الشارقة للتراث وبرعاية كريمة من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، تحت شعار "التراث والمستقبل" وعلى مدى 18 يوماً في ساحة التراث في قلب الشارقة، خلال الفترة 10 – 28 مارس الجاري، بالإضافة إلى الفعاليات المصاحبة التي ستنظم تباعاً على مدار الشهر في كل من كلباء وخورفكان ودبا الحصن والذيد والحمرية.
وازدانت أرض الفعاليات في ساحة التراث برقصات الفنون الشعبية والفولكلورية والأهازيج الغنائية المحلية والعربية والعالمية، حيث أدت فرق الليوا، والهبان، والحربية الإماراتية وصلات أثارت إعجاب الجمهور، فيما جذبت رقصات الفرقة الأرمينية، الدولة ضيف شرف المهرجان، عشاق الفن الشعبي العالمي في مسرح الأيام، فضلاً عن رقصة الأنديما من جمهورية ليتوانا ورقصات الفرقة الروسية، والجلسة العراقية، في حين حظي الأطفال واليافعون في ركن "بنت المطر"، وبإدارة المدرسة الدولية للحكاية، بورش تفاعلية مختلفة من ضمنها ورشة حكواتي الأطفال "الحكواتية أميرة" والعديد من البرامج التعليمية وفقرات برنامج المسرح، بالإضافة إلى المسابقات والبرامج الترفيهية اليومية للصغار والكبار في مواقع مختلفة داخل وخارج الساحة، بينما احتضنت قرية الحرف التراثية ورشة "غرس" التدريبية التي تناولت حرفة التلي من جمهورية مصر العربية الشقيقة واستمرت يومين.
وضمن ندوات المقهى الثقافي، شارك كل من سعادة الدكتور عبد العزيز المسلم، رئيس معهد الشارقة للتراث، رئيس اللجنة العُليا المنظمة للأيام، والدكتور عمر عبد العزيز، والدكتور سعيد يقطين والأستاذ سلامة الرقيعي في ندوة تمحور عنوانها حول تجليات "التراث الثقافي وأفق المستقبل"، وأدارها باقتدار الدكتور مني بونعامة، مدير إدارة المحتوى والنشر بالمعهد، ورئيس اللجنة الثقافية للأيام.
واستهل سعادة الدكتور عبد العزيز المسلم، الندوة بالترحيب بالمشاركين، موضحاً بأن اختيار "التراث والمستقبل" شعاراً لدورة هذا العام انبثق من فكرة أن الشارقة في نهضتها وتنميتها الشاملة تحلق بجناحين قويين يمثلان الأصالة والمعاصرة، في تمسك عميق بقيم وهوية الماضي وتطلع واثق يصنع المستقبل ويستشرفه.
وأكد المسلم أن هذا النهج يتجسد في اهتمام الإمارة بصون التراث وحفظ الهوية الأصيلة بما فيهما من أفكار ومعتقدات وقيم موروثة وإقران كل ذلك بانتشار المؤسسات العلمية والبحثية المتقدمة وأرقى مراكز الابتكار والتكنولوجيا والفضاء والفلك.
وأشار سعادته إلى أن تراث الأمم والشعوب بأصالته وحيويته وحضوره هو الجسر الآمن للعبور السلس والناجح إلى المستقبل، حيث أن العلاقة بين التراث والمستقبل سؤال محوري متجدد يعكس التجاذب بين استعادة متطلبات الموروث الثقافي في الماضي وربطها كمفاتيح لتعامل الأفراد والشعوب مع التحديات الراهنة والمعطيات والمعارف الجديدة.
وبدوره، تحدث الدكتور عمر عبد العزيز عن العلاقة بين التراث والتشكيل، ببعديهما الماضوي والمستقبلي، مؤكداً أن البعض قد يحمل نظرة ثنائية تصادمية بين التراث كمفهوم وفعل وبين التشكيل بما فيه من مفردات الحاضر والماضي والمستقبل. وأضاف أن التراث عصي على الاضمحلال والتلاشي طالما توفر الترابط والربط الصحيح مع المستقبل، لأن التراث بات بمثابة لؤلؤة في محارة تحتاج لإعادة اكتشاف دائم، وقد تبدو كصحراء ميتة لا حياة فيها، لكن قطر المطر المنهمر تنعشها فتدب فيها الحياة من جديد إن أردنا.
وأشار إلى أن التشكيليين يتأثرون بالمفردة التراثية على اختلاف بيئاتها من جبال وبحار وصحاري وسهول، وإن كانت الفنون تدخل ضمن التراث المادي، إلا أن التراث المعنوي غير المادي أكثر أهمية بما فيه من لغة خفية متجددة وإبداع يخاتل الزمن ويستعصي على التلاشي.
ومن ذلك التراث الموسيقي باعتباره عملاً إبداعياً يضمن مؤثرات ينسج منها تفاصيل السجل التاريخي الأنثروبولوجي لدى الشعوب.
وأما الدكتور سعيد يقطين فقد تناول بإيجاز العلاقة بين التراث السردي العربي ورهانات المستقبل، باعتبار أن السرد الروائي لم ينل حقه الكافي من الاهتمام في ثقافتنا قديماً وحديثاً بالمقارنة مع ما حظي به الشعر، رغم أن السرد كنسق حياتي هو فعل قائم يتجلى في أبسط أنواع التواصل اليومي وصولاً إلى الثقافة العميقة. واعتبر يقطين أن الحاضر يمكن تسميته بنقطة الصفر المتحولة بين الماضي والمستقبل، فهو يتداخل مع الاثنين، ولا يمكننا حاضراً أن نفكر في المستقبل إلا على ضوء ما نأخذه من الماضي.
ولفت إلى أن الغرب تجاوز مرحلة التساؤل عن حالة التراث، لأنهم نجحوا في تطويره وجعله مكوناً طبيعياً في حياتهم وممارساتهم اليومية، عبر اعتنائهم بمن مضى من أدباء ومفكرين وشعراء والاحتفاء بمنجزاتهم في الجامعات والعمران، ولا يتم الاكتفاء لديهم بالتذكر الآني والاحتفاء الموسمي بتراثهم، منوهاً بأن التراث لدى العرب والمسلمين بدأ بمرحلة التدوين والكتابة، ثم انتقل لمرحلة التخزين والحفظ، ثم توقف بعدها وانكمش على نفسه خوفاً وخشية في مرحلة الانحطاط.
ودعا يقطين إلى التخلص من التراكمات والرواسب المقيدة للتفكير الثقافي والأدبي المنفتح، مشدداً في الوقت نفسه على أهمية تجاوز عدد من الثنائيات المقيدة والعقد السائدة في الفكر المرتبط بالموروث الثقافي مثل الأصالة والمعاصرة، والثقافة العالمية والشعبية، والإيجابي والسلبي، والشرق والغرب، بهدف الوصول إلى علاقة طبيعة موحدة ومتكاملة مع تراث شامل وقابل للمستقبل، وقائم على المأسسة والدراسة الأكاديمية وبرامج التحقيق والترقيم للنصوص والمخطوطات والبحث الميداني في مجال التراث، فضلاً عن التفاعل مع وسائط التكنولوجيا الحديثة.
وتطرق الأستاذ سلامة الرقيعي إلى دور إمارة الشارقة في رعاية التراث والثقافة وصون الموروث الثقافي عبر جهودها ومنجزاتها ومشاريعها التي تخطت بأثرها ونفعها حدود الوطن العربي، وأسهمت في تحقيق التنمية المستدامة وتعزيزها، مشيراً إلى أن ارتباط التراث بين الماضي والحاضر والمستقبل هي حلقة متسلسلة متواصلة لا انقطاع فيها كما هو الأمر في انتقال الثقافات والمهارات والحرف بين الأجداد والأحفاد بصور وأنماط متطورة.
ودعا إلى إعادة النظر والاهتمام بالجانب الاقتصادي بالمنتج التراثي، ليمنحه الانتشار والاستمرارية وقابلية التسويق، إلى جانب النشاط التوعوي والتثقيفي.
وكان للأستاذ الدكتور أحمد علي مرسي مستشار التراث الثقافي لمعهد الشارقة للتراث سابقاً، حضور ومداخلة مهمة خلال الندوة أوضح من خلالها أن الدخول إلى المستقبل لا بد أن يكون من بوابة التراث، حيث إنه من الوهم الخطير محاولة القفز إلى المستقبل دون أرضية صلبة وثابتة، معتبراً أن النجاح في هذا الدخول الآمن يتطلب إرادة ثقافية قادرة على غربلة الحياة وإزالة الخط الوهمي الفاصل بين التراث المادي وغير المادي، وإعادة تفكيك التراث ومراجعته ليتمكن من الوفاء بمتطلبات المستقبل، وهو ما نراه قد تحقق بجدارة في إمارة الشارقة، التي يمكن وصفها بالنموذج الأمثل للتمسك بالثوابت والإيمان بالمتغيرات وضرورة التجديد، على اعتبار أن العالم في مجال الفكر والحياة الاجتماعية يشهد تغيرات غير مسبوقة ترفع من صوت الشعوب، وتؤكد على حقوقها الفكرية والقيمية والثقافية ومن ضمنها التراث الذي هو ملك الناس ونتاجهم، لذا يتعين عليهم تنميته والمحافظة عليه والتعامل مع متطلبات المرحلة المقبلة دون خوف واستهانة، وتوظيف التراث للمستقبل بما فيه من تطور رقمي وثورة اتصالات وتكنولوجيا متقدمة.
وأوصى مرسي بضرورة إعادة دور الأسر في رأب الصدع الحاصل بين الأفراد واستعادة حياتهم الطبيعية بسبب انعزالهم التكنولوجي، وتغير الكثير من العادات الاجتماعية.
وضمن سلسلة البرامج التعليمية والأكاديمية المقررة في اليوم الثاني من المهرجان في مركز فعاليات التراث الثقافي "البيت الغربي"، عقدت محاضرة حول دور إدارة التراث الثقافي في التنمية الاجتماعية والاقتصادية في دولة الإمارات العربية المتحدة، قدمها الأستاذ أحمد عارف رفيق، مقيم مؤهل الأعمال الإدارية في المؤسسات الثقافية بمعهد الشارقة للتراث، وقدمتها الدكتورة بسمة وليد كشمولة نائب مدير الإدارة الأكاديمية في معهد الشارقة للتراث، حيث ذكر الأستاذ عارف في مقدمة المحاضرة أن إدارة التراث الثقافي في عمل المؤسسات الثقافية تستند إلى مكونات أساسية ثلاثة، أولها المكون القانوني الذي يضمن الحصول المسبق على الموافقات القانونية اللازمة للقيام بالعمل التراثي والثقافي، ثم المكون المرتبط بالهيكل التنظيمي لإدارة التراث الثقافي، نظرًا لخصوصية المهام والاختصاصات والوظائف المنوطة بالمؤسسات التراثية، حيث إن الهيكل المصفوفي هو الشكل الأمثل في هذه المؤسسات، في حين يرتبط المكون الثالث بالجانب التشريعي الذي يتطلب تراخيص وشهادات مزاولة مهنة خاصة لمثل هذه الأعمال.
ثم استعرض المحاضر أثر إدارة التراث الثقافي في التنمية الثقافية المستدامة للمجتمعات، وأهمية صيانة التراث وعدم الاكتفاء بالجانب المعرفي وتحقيق التوازن بين معرفة الأفراد بالتراث وكيفية المحافظة عليه، كون التراث المادي في كثير من دول العالم عرضة للاندثار.
وأوضح أن الاهتمام بالموروث الثقافي يشهد اهتماماً عالمياً ودولياً متصاعداً، ومن ذلك ظهور السياحة التراثية ببعديها التراثي والأثري، حيث قررت منظمة اليونسكو تأسيس واعتماد السياحة الثقافية بجانبيها التراثي والبيئي ووفق أسس مستدامة.
وفي سياق متصل، شهد بيت التراث العربي في ساحة التراث فقرات وفعاليات متنوعة، أهمها ندوة حول الملف الإماراتي: الأفلاج والمدرج ضمن قوائم اليونسكو، شارك فيها كل من د. أسماء الكتبي رئيس الجمعية الجغرافية الإماراتية والسيد عبدالرحمن النعيمي مدير قسم ومواقع التراث العالمي في دائرة الثقافة والسياحة بأبوظبي، حيث تحدثت د. أسماء الكتبي عن مفهوم التراث العالمي بشقيه المادي واللامادي وأهمية الحفاظ على هذا التراث وتعزيز الوعي به ونشره عالمياً، وأشارت إلى أن دولة الإمارات حققت إنجازات نوعية وسباقة في التعريف بالتراث الوطني وتسجيل العديد من عناصرها التراثية على قائمة التراث الثقافي غير المادي للبشرية التي تعتمدها اليونسكو، ومن ضمنها ملف الأفلاج الوطني المقدم باسم دولة الإمارات في ديسمبر الماضي، منوهة بأن تسجيل الأفلاج لدى اليونسكو يعزز نجاحات الدولة وجهودها في صون وحفظ هذا الإرث الإنساني الخالد لدى الشعوب.
من جانبه، تطرق السيد عبدالرحمن النعيمي إلى معايير وعناصر تسجيل التراث الثقافي في منظمة اليونسكو، ومن ضمنها مواقع الآثار وواحات العين، كما استعرض أهمية الأفلاج كشريان رئيسي للحياة في حضارة الإمارات قديماً، وتاريخها الأثري، وأوضح أن أقدم فلج تم اكتشافه في مدينة العين يعود إلى العصر الحديدي الذي يمتد في عمقه التاريخي إلى ما قبل 3 آلاف سنة ويوجد هذا الفلج في حديقة آثار هيلي، كما أشاد بجهود دائرة الثقافة والسياحة في الإمارة وحرصها على تعزيز مكانة الدولة على خريطة التراث الثقافي العالمي، وبما يتلاءم مع انفتاحها على شعوب العالم وتبوئها مكانة مرموقة كوجهة سياحية مثلى.
وضمن مشاركة مركز التراث العربي أيضاً، كان الجمهور على موعد مع ورشة الخط العربي التي يقدمها يومياً وعلى مدى ثلاثة أيام الخطاط الإماراتي الدكتور علي الحمادي، حيث يتعرف المشاركون الراغبون لتعلم هذا الفن الجميل على أساسيات خط الرقعة والفرق بينه والخطوط الأخرى كالثلث والنسخ، فضلاً عن تعريفهم بأفضل الأدوات المستخدمة لممارسة الخط وأنواع الحبر والأقلام. وفي هذا الإطار، أوضح الحمادي أن الخط العربي موروث ثقافي خالد وراسخ كون الخط الواحد يتطلب تطوره منذ أول نشأته إلى أكثر من 600 عاماً، ويعبر عن ثقافة وهوية الأمة، وقد ارتبطت به العديد من الوظائف السياسية العليا في تاريخ العرب والمسلمين في الماضي.
ودعا الحمادي إلى أهمية إعادة إدخال تعلم الخط ضمن المناهج الدراسية في ظل تأثر مهارة الكتابة اليدوية نتيجة التكنولوجيا الحديثة وانتشار الألواح الإلكترونية والهواتف الذكية التي قللت من استخدام اليد في الكتابة.
ستنطلق فعاليات أيام الشارقة التراثية في مدينة الذيد في حصن الذيد، من 13 حتى 19 مارس الجاري، في تمام الساعة الخامسة مساءً، حيث ستتضمن ركن المعهد، وركن الورش، الذي يتكوّن من 11 ورشة تراثية للأطفال والكبار، بالإضافة إلى ركن المقهى الثقافي والإدارة الأكاديمية: وتقام فيه المحاضرات، مع التعريف بالدبلومات المهنية والإدارة الأكاديمية.