جار التحميل...

°C,

ليلة في الشارقة

November 23, 2020 / 10:06 AM
كلما مررت أو وقفت في أي مكان في الشارقة تداعت في ذاكرتي صور لحظات عبرت في دروب أيامي الخوالي وعشتها بكل سعادة وأنا أنهل من ينابيع ثقافتها الدافقة، حتى صار لا يمر عليَّ يوم دون أن أرتوي من مناهل ذكرياتي الشارقية.
في الشارقة يجد المرء نفسه يرتقي، ودائماً ما يحسُّ بنزوع إلى الفضاء، ومن هذا المنطلق أتذكر إحدى ليالي ملتقى الشارقة للشعر العربي، تذكرتها هذا الأسبوع حينما جددتُ زيارتي لبيت الشعر في منطقة قلب الشارقة، فبينما كنت أستعد ليلتها لتقديم ثلاثة من خيرة الشعراء العرب، وقفت أمام الشعراء والحضور حائراً بين أمرين اثنين، ووجدتُني في وضع لا أُحسد عليه مرَّةً، وربما حُسدتُ عليه مرات .. أما الأمر الأول فهو اقترابي من أولئك الشعراء .. من تلك القصور المنيفة التي شيدت على روابٍ مرتفعة، ولكم أن تتخيلوا ما أصابني حينما دنوتُ منها .. لقد رفعت بصري فإذا ببواباتها تتعالى في السماء؛ وأما الأمر الثاني فهو ذلك الشرف الذي أسبغته عليَّ دائرة الثقافة في الشارقة وكللتني به يوم اختارتني وعهدت إليَّ تقديم شعراء كلُّهم شامخ راسخ وسامق باذخ، فللأمر الأول التمستُ لنفسي العذر، وللثاني - لا أخفيكم - شعرتُ بالفخر.


في تلك الفسحة الزمنية التي جادت بها الشارقة على الشعراء وعشاق الشعر، وفي ذلك الحيز المكاني الواقع في قلب الشارقة والذي مازالت إلى اليوم تتنفس في فضائه وزواياه أخيلة الماضي العريق، وترتسم على جدرانه صورُ المجد العتيد والتاريخ الأصيل، هناك حطت بعد السفر الركاب، ومن هناك انطلقت الرحلة نحو السحاب، والشعر لو تعلمون رحلة .. رحلة النفس إلى النفس، منها يشع وفيها يغيب فيضيؤها ويضيء الحياة من حولها، ولا ينطفئ بانطفائها .. أبداً، بل يبقى خالداً خلود الأبدية.


استشهدتُ وأنا أقدم الشعراء في تلك الليلة الأثيرة التي لا أنساها كبقية ليالي وأمسيات الشعر والأدب ببيتين من قصيدة قلتها ذات يوم من عهد بعيد لي مع الشعر، وفيهما أفلسف أمر خلود الشاعر بعد الرحيل، وألقيت:

ذلك الشاعرُ باقٍ في المدى
يتحدَّى كالخلود الحِقبا

هو كالنجم مُشعُّ كلما 
أقبلَ الليل وأرخى الحُجُبا


لقد انتشى الليل ليلتها، وتوثبت الخيالات وتوقدت المشاعر، وحلق الشعراء في سماوات ذهبية من الفن والإبداع، وصبُّوا إكسيراً عجَباً عُصر من نبتٍ سحريٍّ عجيب لا ينمو إلا في وادي عبقر، وهم الذين لا تذهب كلماتهم ولا حياتهم هباء، لأنهم الظافرون بالبقاء.


وانقضت تلك الليلة بكل ما فيها من سحر وروعة، وذهب الشعراء وآوَوا إلى مضاجعهم ليناموا ويحلموا، أما أنا فلم أنم ليلتها، بل شددتُ جفنيَّ بنجم في السماء وسهرتُ حتى الفجر وأنا أستعيد لحظات الأمسية التي ندَّاها الشعراء بقطرات من عطور إلهاماتهم وضمخوها برياحين أنفاسهم الزاكية، وبها رسمت الشارقة لوحة ليلة من أجمل ليالي الشعر التي لا تنسى، وما أكثر وأعطر ما تبقيه الشارقة في نفس الذاكرة.
 
November 23, 2020 / 10:06 AM

Rotate For an optimal experience, please
rotate your device to portrait mode.