وردت في فضل العفو عن الناس آيات كثيرة، منها: قوله تعالى: "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين"، وقوله تعالى: "وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم"، وقوله تعالى: "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم"، وقوله تعالى: "ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور".
كما دلت على فضل العفو كذلك أحاديث كثيرة من أحاديث الرسول ﷺ منها: قوله ﷺ: "ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"، وقوله: "ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً"، وقوله: "من كف غضبه ستر الله عورته".
وقد تجلت فضيلة العفو في سيرته ﷺ العطرة، ومن أصدق ما يبيِّن ذلك قول السيدة عائشة - رضي الله عنها-: "ما ضرب رسول الله ﷺ شيئاً قط بيده ولا امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلاّ أن ينتهك شيئاً من محارم الله تعالى فينتقم لله تعالى".
وكذلك قول سيدنا أنس - رضي الله عنه: "فخدمته في السفر والحضر مقدمه المدينة حتى توفي ﷺ ما قال لي عن شيء صنعته لم صنعت هذا هكذا، ولا قال لي لشيء لم أصنعه لِمَا لم تصنع هذا هكذا".
وأيضاً قوله: "كنت أمشي مع رسول الله ﷺ وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة فنظرت إلى صفحة عاتق النبي ﷺ وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته ثم قال يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء".
وكذا العفو مستحب بدلالة الأدلة السابقة، ومما يحسن التنبيه إليه في هذا المقام أن العفو ليس مستحباً عن كل مسيئ وظالم، بل الظالم المعروف بالظلم والتعدي على الناس المستحب عدم العفو عنه، والانتصار منه، وعقابه؛ فقد مدح الله –تعالى– الذين ينتصرون ممن ظلمهم بقوله: "والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون".
وقال القرطبي: "أي أصابهم بغي المشركين، قال ابن عباس: وذلك أن المشركين بغوا على رسول الله ﷺ وعلى أصحابه وآذوهم وأخرجوهم من مكة فأذن الله لهم بالخروج ومكن لهم في الأرض ونصرهم على من بغى عليهم وذلك قوله في سورة الحج: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا...) الآيات كلها.
وقيل هو عام في بغي كل باغ من كافر وغيره، أي إذا نالهم ظلم من ظالم لم يستسلموا لظلمه، وهذه إشارة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، قال ابن العربي: ذكر الله الانتصار في البغي في معرض المدح، وذكر العفو عن الجرم في موضع آخر في معرض المدح فاحتمل أن يكون أحدهما رافعا للآخر، احتمل أن يكون ذلك راجعاً إلى حالتين.
إحداهما: أن يكون الباغي معلناً بالفجور وقحاً في الجمهور مؤذياً للصغير والكبير فيكون الانتقام منه أفضل، وفي مثله قال إبراهيم النخعي كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فتجترئ عليهم الفساق. الثانية: أن تكون الفلتة، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة ويسأل المغفرة، فالعفو ههنا أفضل، وفي مثله نزلت: "وأن تعفوا أقرب للتقوى"، وقوله: "فمن تصدق به فهو كفارة له"، وقوله: "وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم". قلت: هذا حسن". والله أعلم.