جار التحميل...
الشارقة 24:
في أروقة الدورة الرابعة والأربعين، حيث يلتقي الكتّاب والناشرون والمبدعون من مختلف أنحاء العالم، يمكن للزائر أن يلمس بوضوح ملامح التحولات العميقة التي يشهدها قطاع النشر العالمي، فكل مشارك يحمل إلى هذا الحدث خلاصة تجربته، ويعرض أحدث مشاريعه، ويتبادل الرؤى والخبرات حول مستقبل الكتاب في عصر تتغير فيه الأدوات والوسائط بوتيرة غير مسبوقة.
ومن بين أبرز المتغيرات التي تلقي بظلالها على صناعة النشر اليوم، ثورة الذكاء الاصطناعي التي فتحت الباب أمام خيارات لم يكن أحد يتخيلها قبل أعوام قليلة، إذ باتت التقنية قادرة على المشاركة في كل مراحل إنتاج الكتاب، من الكتابة إلى التحرير، ومن التصميم إلى التسويق.
ومع هذا التطور، يتجدد السؤال الثقافي والمهني معاً: هل يشكّل الذكاء الاصطناعي إضافة إلى الإبداع الإنساني، أم أنه يهدد خصوصيته ويعيد تعريف معنى "المؤلف" و"الناشر"؟
وفي أجواء معرض الشارقة الدولي للكتاب 2025، تباينت الإجابات بين المتخصصين، وتعددت وجهات النظر ما بين من يرى في التقنية حليفاً يختصر الوقت ويحرر الطاقات الإبداعية، ومن يخشى أن تتحول إلى قوة تحل محل الإنسان في جوهر العملية الإبداعية.
ترى زينة باسل مديرة قسم التصميم الفني في مؤسسة كلمات، أن الذكاء الاصطناعي دخل العملية الإنتاجية كمساعد تقني أكثر منه شريكاً إبداعيّاً، موضحةً أن تأثيره كان "إيجابياً وسلبياً في الوقت نفسه"، وتقول إن الذكاء الاصطناعي اختصر علينا الكثير من الوقت في الجوانب التقنية، كقص الصور والتحكم بالخلفيات وتنفيذ التعديلات السريعة، لكنه لم يصل بعد إلى مرحلة الإبداع الحقيقي، ونحن لا نعتمد عليه إلا كأداة مساعدة، بينما يبقى المبدعون في مؤسستنا مسؤولين بالكامل عن الرؤية الفنية والهوية البصرية لكل عمل، وترى أن قيمته الكبرى تكمن في تخفيف الجهد وتسريع الإنجاز، ما يمنح المصممين وقتاً أوسع للتفكير الفني والابتكار، لكنها تؤكد في الوقت نفسه أن الآلة لا تملك إحساس اللون ولا عمق الفكرة، فهي تُنفّذ، لكنها لا تُلهم.
من جانبه، يرى الإعلامي والناقد غيث الحوسني، أن الذكاء الاصطناعي يمثل تحدياً إيجابياً يعيد ترتيب مفاهيم الكتابة والتحرير في العالم العربي، ويضف أخطر ما يمكن أن يواجهه أي كتاب هو أن يخرج بصيغة تحريرية ضعيفة، خصوصاً في عصر التقنية المفتوحة وكثرة التطبيقات التي يمكن أن تجعل من المخرج النهائي مخرجاً في غاية الجودة، خاصةً أننا اليوم أمام منصات متخصصة في التحرير الأدبي، يمكنها أن تضبط النص وفق الشروط اللغوية والخصائص التداولية واللسانية بدقة كبيرة، وهو أمر كنا نفتقده لسنوات طويلة في عالم النشر العربي، ويتابع أن الذكاء الاصطناعي سينافس البشر بقوة، لأنه لا يكتفي بالكتابة بل يجبر الكاتب على أن يكون أكثر وعياً ومعرفة بأدواته، معتبراً أن الخطر ليس في وجود الذكاء الاصطناعي بل في رفض فهمه.
بدوره، يؤكد مصطفى سالم، ممثل دار العين للنشر، أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي أثّرت بوضوح في صناعة الكتاب، من أول تصميم الأغلفة إلى الترجمة والتحرير، وحتى عملية الطباعة، موضحاً أنه شخصياً لا يعارض استخدامها، لكنه يؤمن أن الإبداع الحقيقي ما زال بحاجة إلى يد ووجدان بشريين، ويضيف في دار العين نفضل أن نظل نعمل بالطريقة التقليدية، لأن الذكاء الاصطناعي -على الأقل في الوقت الحالي- لا يستطيع أن يصل بمستوى الإخراج الفني إلى ما يفعله المصمم الحقيقي، والمصمم يقرأ النص ويشعر بروحه قبل أن يختار لونه أو شكله، وهذا ما لا تستطيع التقنية فعله، ويتابع أن التصميم الفني فعل وجداني أكثر منه تقنياً، فـالذكاء الاصطناعي ينتج ما يُطلب منه، لكن المبدع يخلق ما لم يُتوقّع منه.
من طرفها، تؤكد نجلا رعيدي، مديرة قسم كتب الأطفال في دار هاشيت أنطوان نوفل، أن فريقها يمتلك وعياً ومعرفة واسعة بتطبيقات الذكاء الاصطناعي وإمكاناته المتنوعة في صناعة الكتاب، من التصميم إلى التحرير وحتى صياغة المحتوى، وتضيف نحن نفهم الأدوات تماماً، ونعرف كيف يمكنها أن تساعد في تسريع بعض العمليات التقنية، لكنها بالنسبة لنا ليست بديلاً عن المبدع ولا عن جهد كل العاملين في صناعة الكتاب.
وعند سؤالها عن موقفها لو قدم مبدع كتاباً عالي الجودة محتواه مكتوب بالكامل بالذكاء الاصطناعي واعترف بذلك، لم تُجب نجلا بشكل مباشر، لكنها تركت الباب مفتوحاً للتفكير: إذا كان المحتوى جيدًا فعلًا، والشخص صريح في الاعتراف بأن النص من إنتاج الذكاء الاصطناعي، لماذا لا نأخذ الكتاب؟ المسألة ليست رفض التقنية، بل احترام العمل الإبداعي، والوضوح مع القارئ.