إن وعي الإنسان لشئ َّما هو عملية استيعاب كاملة لكل مفردات هذا الشئ، حيث أنه تبصرةٌ ببدايته ونهايته، كما أنه تدبرٌ لظاهره وباطنه، كما يعد فهماً لأسراره وخفاياه، وهذا ما يظهر من تعبير القرآن الكريم في قوله تعالى (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) (سورة الحاقة آية رقم 12).
ومن هنا حرص الإسلام على أن يشكل تلك العقلية الواعية، التي تتأمل وتتدبر، والتي تعتبر وتتذكر، والتي تبصر مواقع الرشد ، وتدرك مواطن الحكمة، وتأتي الصلاة لتكون إحدى وسائله العظمى في إعداد هذه العقلية.
إن الصلاة ليست طقساً يؤَدَّى بعقل مُغَيَّب وقلب لاهٍ، بل إنها مدرسة تتجلى فيها كافة المقومات العقلية والروحية والجسدية للشخصية المسلمة لتتشكل من خلال ذلك كله حالة من الوعي الشامل، وسنكتفي هنا بذكر مجالين من مجالات الوعي،وهما : الصلاة ووعي الإنسان بذاته وتتجلى أول أنواع الوعي الذي تشكله الصلاة في وعي الإنسان بذاته،ففي الصلاة تتضح الغاية التي خُلق الإنسان من أجلها وهي تحقيق العبودية لله تعالى، إذ تظهر فيها كل ملامح هذه العبودية خشوعاً وخضوعاً، وقولاً وعملا، وظاهراً وباطنا.
لذا فحين سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم عن سر قيامه بين يدي ربه مصليا حتى تتورم قدماه أجاب بأنه يفعل ذلك تحقيقاً لمقام العبودية (أفلا أكون عبداً شكوراً).
كما أننا نجد اتساقاً بين أداء هذه الشعيرة العظيمة وبين الطبيعة البشرية للإنسان، فحين يعرض للإنسان أي من عوراضه البشرية كالنوم أو النسيان نجد أن الإسلام يعطيه الفرصة لاستدراك ما فاته من أنوار هذه العبادة، والانطلاق مرة أخرى في معراجها ،لذا جاء في الحديث : من نام عن صلاةٍ أو نسِيها فلْيُصلِّها إذا ذكَرها.
وإذا كان الإنسان مكوناً من مادة وروح، فإننا نجد أن الصلاة تعمق من حالة التكامل بين هذين المكونين، إذ لم تكن الصلاة تأملاً روحياً مجرداً من أداء جسدي.
ولم تكن في الوقت ذاته عملاً جسدياً منفصلاً عن الترقي الروحي، لذا رأينا في التعليم النبوي للرجل الذي أخطأ في صلاته إشارة إلى العمل الجسدي والترقي الروحي معا، حيث قال له صلى الله عليه وسلم: (إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلاةِ فَكَبِّرْ , ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ معك مِنْ الْقُرْآنِ , ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعاً , ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِماً , ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً, ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِساً وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا.)، إنه قيام وركوع وسجود بالجسد يلازمه تبتل وخضوع وخشوع بالقلب.
الصلاة ووعي الإنسان بزمانه كما تشكل الصلاة كذلك لدى المسلم وعياً بالزمن الذي يحياه، والوقت الذي يمضي بين يديه، فيعرف صباحه من مسائه ،وليله من نهاره، (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً).
وحين نتأمل صلاة الجمعة مثلاً نجد أنها تؤدي دوراً عظيماً في تشكيل الوعي بالزمن لدى المسلم، حيث نرى ثلاث وحدات زمنية مرتبطة بهذه الشعيرة العظيمة، فقبل الجمعة يدخل المسلم في حالة من الاستعداد الجسدي والنفسي، وحين يُنادى لها يعي المسلم أنه أضحى أمام وقت له حرمته وواجباته (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
أما بعد الانتهاء من أداء الشعيرة،فإن الحكم يختلف (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
إن المسلم الذي يتربى على هذه الوحدات الثلاث لا يمكن أن يستقبل زمانه غافلاً، ولا أن يمضي عليه وقته دون سعي في مصالح دينه ودنياه.