الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، الذي أوتي جوامع الكلم، فكان حديثه بياناً يعجز البلغاء عن إدراكه، ويتقاصر الأدباء عن محاكاته ومجاراته، وعلى آله الطيّبين الطاهرين وأصحابه الغرّ الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
فإنّ الواجب على كلّ مسلم ألاّ يعبد اللهَ تعالى إلاّ بما شرعه على لسان نبيّه، وحتى يحصل ذلك يلزمه أن يتأكّد من ثبوت كلّ ما ينقله عن النبيّ، من الأقوال والأفعال.
وإنّ المصدر الأوّل، الذي يجب الرجوع إليه، والاحتكام إليه، والصدور عنه، هو كتاب الله عزّ وجلّ، والسنةُ النبويةُ هي البيان الشافي لمعاني القرآن الكريم، وقد حفظ الله كتابه كما في قوله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
ولا يتمّ هذا الحفظ إلاّ بحفظ السنة، التي هي بيانه، وهي التي عن طريقها يُشرح غامضه، ويُفسّر مُبهمه، ويُفصّل مجملُه.
وقد قيّض الله تعالى لحفظ بيان كتابه رجالاً علماءَ فقهاءَ، أفنوا أعمارهم في تعلّم هذه السنة، وحفظها، ووضع القواعد العاصمة من الوقوع في الخطأ فيها، وقد تنبّأ النبيّ بهؤلاء الأعلام الذين سيحفظون سنّته، فقال "يحمل هذا العلمَ من كلّ خلف عدوله، يَنفون عنه تحريفَ الغالين، وانتحالَ المبطلين، وتأويلَ الجاهلين".
وكان من نتائج هذه الجهود العظيمة، أن تميّزت الأحاديث الصحيحة من غيرها، وآل الأمر إلى ثلاث حالات:
1 ـ إمّا حديث صحيح، يعني أنّه استوفى شروط الصحة التي وضعها علماء الحديث.
2 ـ وإمّا حديث ضعيف، بأقسامه المختلفة بحسب اختلال شروط الصحة، وقواعد التعامل.
3 ـ وإمّا حديث موضوع، قد بيّنه العلماء وحذروا منه، ووضعوا القواعد في كيفية معرفته.
ولكن، للأسف الشديد، ونظراً لضعف الثقافة الشرعية عند عامّة الناس، فقد انتشرت بينهم جملةٌ من الأحاديث الموضوعة المكذوبة على رسول الله، أو المنسوبةُ إليه جهلاً، وتناقلها الناس على أنّها أحاديث ثابتة، وفي كثير منها معان غيرُ صحيحة أو مخالفةٌ لما ثبت من نصوص القرآن والسنة الصحيحة.
وكان من الملاحظ أنّه كلما اجتمع الناس في مجلس من المجالس، ودار النقاش والحديث حول موضوع ما، وأدلى كلّ واحد بدلوه، وأبرز حجّته في تأييد رأيه في ذلك، كان بعضُ هذه الحجج أحاديثَ مشهورةً بين الناس اشتهرت وانتشرت، يوردها بعض الناس في معرض الاحتجاج، وتقرير الحقائق.
عادةً، تكون هذه الأحاديث المنسوبة إلى رسول الله غير صحيحة النسبة إليه، أي لم يَقُلْها، وإنّما هي أقوال للصحابة، أو التابعين، أو حكمة ماضية، أو مثل من الأمثال السائرة، بل قد تكون من اختلاق الوضاعين الكذابين، ولكن رغم ذلك انتشرت هذه الأحاديث بين الناس، بل بين المثقفين بسبب الجهل بعلم الحديث، وقواعده التي وضعها العلماء للتمييز بين الحديث الصحيح وغير الصحيح.
ولذلك فإنّه يسعدنا أن نقدّم إلى أبنائنا بالجامعة، وإلى عموم قرّاء المنبر الجامعي هذا الركن الذي جمعنا فيه بعضًا مما ينتشر بين الناس اليومَ من الأحاديث، التي نبّه العلماءُ رحمهم الله في كتبهم، ومؤلفاتهم، ومصنّفاتهم على أنّها ليست من كلام المعصوم، ممّا يظنّه الكثيرون أحاديث ثابتة، علما بأنّ كثيرا ممّا نذكره هنا هو صحيح المعنى في نفسه، لكن لا تصحّ نسبته إلى النبيّ.
اطْلُبُوا العِلْمَ مِنَ المَهْدِ إلى اللَّحْدِ
هذا حديث مشهور جداً بين الناس، وأورده بعض أصحاب الكتب ونسبوه إلى النبيّ، ولم نجد من نسبه من علماء الحديث إلى النبيّ، وكلّ ما وجدناه في كتب العلماء أنّهم يُوردونه غيرَ منسوب، والوحيد الذي رأيناه نسبه إلى النبيّ هو حاجي خليفة في كشف الظنون.
ففي بعض هذه الكتب قيل لبعضهم من متى التعلم وإلى متى؟ فقال: "من المهد إلى اللحد".
وهذا المعنى صحيح، فلا شكّ أنّ طلب العلم ليس له زمان معيّن، بل هو ممتدّ إلى نهاية العمر.
وليس أضرَّ على طالب العلم من اعتقاده أنّه قد حصّل العلوم وحاز الفنون، ولم يعد بحاجة إلى زيادة التعلّم، فإنّ هذا هو الجهل بعينه، قال سعيد بن جبير رحمه الله: "لا يزال الرجل عالما ما تعلم فإذا ترك التعلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده كان أجهل ما يكون"، وقال ابن أبي غسان: "لا تزال عالما ما كنت متعلما فإذا استغنيت كنت جاهلا".
فالمسلمُ مُطالَب بطلب العلم في جميع أحواله، وفي جميع مراحل حياته. قيل لعبد الله بن المبارك: "إلى متى تكتب العلم؟ قال: لعل الكلمة التي أنتفع بها ما كتبتها بعد".
ولكم أيّها القرّاء الكرام أن تقارنوا كلام ابن المبارك مع حالنا اليوم، فالكثير منا للأسف الشديد يكتفي من العلم ببعض قشوره، وليته يعرف قدره وحجمه، بل ينطلق يملأ رئتيه بهواء الغرور، والادعاء ويتطاول على الآخرين، ويفتي في كلّ شيء.
وكان بعض سلفنا الصالح رحمهم الله، يَسألون عن الفقه وهم على فراش الموت، فلم يمنعهم قرب الموت من السؤال عما ينفعهم، ولهم في ذلك قصصٌ وحكاياتٌ يضيق المجال عن ذكرها.
أمّا فضل العلم فقد وردت فيه أحاديث كثيرة جداً، يكفينا منها اختصارا قوله: "من خرج في طلب العلم كان في سبيل الله حتى يرجع".
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة، وقبل ذلك نصوصُ القرآن في بيان فضل العلم وأهله.
والخلاصة أنّ هذا الحديث الذي يتداوله الناس فيما بينهم ليس من كلام النبي أصلاً، أمّا معناه فهو صحيح، تؤيّده الأحاديث الأخرى الصحيحة الواردة في طلب العلم والصبر عليه.