العِلْمُ في الصِّغَرِ كالنَّقْشِ في الحَجَرِ، قول مشهور بين العامّة والمتعلّمين، يذكرونه في التأكيد على وجوب اغتنام مرحلة الصغر لتحصيل العلوم، قبل أن تنقضي وتأتي مرحلة بعدها يعسر فيها التعلّم على الكثيرين، ولا تصح نسبتها للنبي صلى الله عليه وسلم.
ورغم جمال هذه الجملة وبلاغتها وصحّة معناها، إلاّ أنّ ذلك كلّه لا يجعل منها حديثًا نبويًّا ثابتًا، وإليك التفصيل: هذا الحديث أخرجه كثير من العلماء في كتبهم، من طرق كثيرة، وبألفاظ مختلفة، منها هذا اللفظ المذكور في العنوان.
ولا يفرح بكثرة تلك الأسانيد؛ لأنّ فيها من الضعف الشديد، ما يمتنع معه الحكم لهذا الكلام بصحّة نسبته إلى رسول الله.
وعلى هذا، فلا يجوز رواية هذا الكلام، أو نقله، على أنّه حديث المعصوم، حتى لا يدخل الناقل في الوعيد الشديد، الوارد في قوله: "من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".
وذكر جمعٌ من العلماء، أنّه من كلام الحسن البصري، رواه البيهقي في مدخله، وابن عبد البر في جامعه، ولفظه عنده: " طلب الحديث في الصغر كالنقش في الحجر"، وغيرهما.
وأخرجه الخطيب، بإسناده، من قول القاسم بن أبي بزّة. وأمّا معنى هذا القول، فيحتاج إلى بعض التفصيل. فإن أريد بذلك غالب أحوال الناس، فهذا صحيح، إذ لا شكّ أنّ التعلّم في الصغر تجتمع له من أسباب النجاح، وتتهيّأ له من عوامل الثبات، ما لا يجتمع لمن بدأ يطلب العلم كبيراً، لأنّ الصغر هو مظنّة الخُلُوّ من الشواغل، فإذا طلب العلم في هذه السن المبكّرة، تمكّن العلم من قلبه.
وما أجمل قول الشاعر: أَرَانِيَ أَنْسَى مَا تَعَلَّمْتُ فِي الْكِبَرْ ... وَلَسْتُ بِنَاسٍ مَا تَعَلَّمْتُ فِي الصِّغَرْ وَمَا الْعِلْمُ إِلَّا بِالتَّعَلُّمِ فِي الصِّبَا ... وَمَا الْحِلْمُ إِلَّا بِالتَّحَلُّمِ فِي الْكِبَرْ وَلَوْ فُلِقَ الْقَلْبُ الْمُعَلَّمُ فِي الصِّبَا ... لَأُلْفِيَ فِيهِ الْعِلْمُ كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرْ وبناء على أنّ العلم في الصغر أثبت، فينبغي الاعتناء بصغار الطلبة، لا سيما الأذكياء المتيقظين الحريصين على أخذ العلم، فلا ينبغي أن يجعل صغرهم، أو فقرهم، وضعفهم مانعاً من مراعاتهم والاعتناء بهم.
أمّا إذا أريد بذلك التعميم، فلا يكون صحيحاً، إذ أنّ من العلماء من طلبوا العلم كباراً، وماتوا علماءً.
قال السخاوي: "وهذا محمول على الغالب، وإلا فقد اشتغل أفراد كالقفال والقدوري بعد كبرهم ففاقوا في علمهم، وراقوا بمنظرهم".
والخلاصة أنّ هذا الكلام لا تصحّ نسبته إلى النبيّ، بل هو من كلام الحسن البصري، أمّا معناه فهو صحيح في الغالب؛ لأنّ الصغر مَظنّةُ اجتماع أسباب القوة، التي تعين على تحصيل العلوم والمعارف.