قد نتفق، بأن الإنترنت سهل مهمة المؤرخين بمحفوظات إلكترونية هائلة، وبرمجيات قوية للبحث، لكنه في الوقت نفسه أحدث تغييراً عميقاً، إذ أفقد روائع المؤرخين من رائحة المخطوطات، وحس الأحداث في قاعات الأرشيف، حيث يُصنع التاريخ.
الشارقة 24 - أ. ف. ب:
يُحدث العالم الرقمي تغييراً عميقاً في مهنة المؤرخين بما يحتويه من محفوظات إلكترونية بكميات هائلة، وبرمجيات قوية للبحث، لكنها تفتقد لرائحة المخطوطات، وحس الأحداث في قاعات الأرشيف حيث يُصنع التاريخ.
زوال رائحة المخطوطات
قبل ثلاثة عقود، وصفت الأخصائية الفرنسية في تاريخ القرن الثامن عشر أرليت فارج في كتاب شخصي بعنوان "حس الأرشيف"، تاريخها الطويل مع ارتياد قاعات المحفوظات حيث "يُصنع التاريخ"، متحدثة عن "لون القسائم، وتقشف أخصائي الحفظ، ورائحة المخطوطات".
أما اليوم فيغوص المؤرخون المعاصرون في عالم رقمي تسوده برمجيات البحث، وتختفي منه رائحة الأوراق القديمة،وتمثّل مسيرة الباحث فريديريك كلافير 41 عاماً مثالاً جيداً عن هذا التحول.
وأطلق هذا المؤرخ مسيرته في نهاية التسعينات، عبر أطروحة "تقليدية" عن حاكم البنك المركزي خلال الحكم النازي يالمار شاخت.
وهو يستذكر زياراته المتكررة إلى قسم المحفوظات الفدرالية في برلين، متوقفاً خصوصاً عند "حالات الغثيان لدى قراءة بعض الوثائق" من المحفوظات النازية.
أما اليوم، فبات هذا الأخصائي في التاريخ المعاصر، في جامعة لوكسمبورغ يستخدم خوادم إلكترونية، وبرمجيات لجمع تغريدات، كوثائق من أجل دراسة عن الذكرى المئوية الأولى للحرب العالمية الأولى.
ويقول "لا أزال أعمل في مجال التاريخ"، لكن الأمر "اختلف كثيراً" عن جلسات الأرشيف في برلين قبل عقدين.
ويوضح لوكالة فرانس برس "أنا أشكّل حالة متطرّفة، لكن زملاء كثيرين يستخدمون من دون أن يعلموا أحيانا، محفوظات رقمية متوافرة إلكترونياً مع برمجيات متطورة ".
198 مليون وثيقة رقمية
وسواء جرى تحويلها إلى نسخ رقمية في مراحل لاحقة، استناداً إلى وثائق قديمة أو تصميمها من الأساس بنسق إلكتروني "بريد إلكتروني، أو تغريدات، أو صفحات إلكترونية، أو وثائق معلوماتية"، أطاحت المحفوظات غير المادية بفضل حجمها وسهولة الولوج إليها بالوثائق الورقية.
وتوضح المسؤولة في القسم الرقمي في هيئة المحفوظات الوطنية الفرنسية، مارتين سين بليما بارو، أن الأرشيف الرقمي، قطاع يسجل "نمواً استثنائياً" مع أكثر من 198 مليون وثيقة.
فعلى سبيل المثال، خلال التغيير الحكومي الأخير في فرنسا العام الماضي، جمعت 9 آلاف جيغابايت من البيانات المتأتية من وزارات محلية على يد هذه المؤسسة، التي تتمحور مهمتها الأولى حول جمع محفوظات الدولة.
وتؤكد سين بليما-بارو أن الوثائق الرقمية أكثر "هشاشة" من النسق القديم لأن "حفظها يعني إبقاءها مفهومة، وقابلة للاستخدام عبر الزمن، بما يسنح بتخطي مرور الزمن التقني في نسقها، والوسائط التي تحملها".
مشاريع للذاكرة
أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي مصدراً ضرورياً لباحثين كثيرين في مجال العلوم الاجتماعية، نظراً لغناها الهائل بالبيانات.
كما أن أخصائي الحفظ في العالم الرقمي، باتوا يتولون تخزينها بالاستعانة بأدوات محددة.
على سبيل المثال، في الساعات التي أعقبت هجمات باريس في يناير 2015 ضد مجلة "شارلي إيبدو" الساخرة، وفي نوفمبر من العام نفسه في قاعة "باتاكلان" للحفلات، جمع المعهد الوطني لقطاع المرئي والمسموع، ملايين التغريدات تعقيباً على الهجمات.
وتمت أرشفة أكثر من 20 مليون تغريدة من المعهد، وبدأ باحثون باستخدامها في إطار مشروع خاص بإدارة المؤرخة فاليري شافر، لحفظ البيانات المرتبطة بهجمات باريس.
وهم التحويل الرقمي التام
يشير الأستاذ في جامعة تولوز-جان جوريس الفرنسية، سيباستيان بوبلان، إلى أن الكثير من طلابه يرون في التوجه إلى قاعة الأرشيف "أمراً غير ذي جدوى بتاتاً" لأن "كل المصادر باتت موجودة بالنسق الرقمي".
غير أن "التحويل الرقمي للمحفوظات ينطوي على شكل من أشكال المحو وتخفيف الرابط مع المصادر"، ولا يترك أي مكان للاكتشافات، على ما يقول المؤرخ في وثيقة جماعية بعنوان "حس الأرشيف في العصر الرقمي".
أما زميله فريديريك كلافير، فلا يتأسف "على رائحة المخطوطات" محذراً من التوهم بإمكان الاعتماد التام على التحويل الرقمي.
وهو يشير إلى الخطر، أن يكمن في نسيان أنه لا يمكن رقمنة كلّ شيء، وفي تجاهل المحفوظات الورقية اللازمة.