جار التحميل...

mosque
partly-cloudy
°C,

النسق المعرفي في القرآن الكريم.. رحلة عقلية نحو اليقين

04 يونيو 2025 / 11:35 AM
النسق المعرفي في القرآن الكريم.. رحلة عقلية نحو اليقين
download-img
تعتبر نظرية النسق المعرفي (Coherentism) من أهم النظريات التي تعالج مشكلة التبرير العقلي للمعرفة بمنأى عن دلائل مستقلة أو مسلمات حسية مباشرة، وإنما ضمن شبكة مترابطة من المعتقدات وربطها بطريق دائري عبر القرائن المتواجدة بينها، بحيث يتعزز التبرير العقلي من خلال الترابط الداخلي بينها دون الحاجة إلى نقطة بداية تأسيسية؛ مما يعزز قدرته على الاستدلال على إثبات الحقائق الكبرى بعيداً عن المشكلات الفلسفية التقليدية المرتبطة بالدور والتسلسل المستحيلين عقلياً.
ومما لا شك فيه أن الفلسفات التي تطرقت للمعرفة فقط من خلال الإدراك الحسي المباشر قد فشلت، لأن الحس وحده لا يكفي لبناء نسق معرفي كامل، لأنه في كثير من الأحيان يعطي نتائج مغلوطة. لذلك وجد الفلاسفة أن الاعتماد على الحواس فقط يؤدي إلى فقدان الاتساق بين المعتقدات، فلا يمكن الوصول من خلالها إلى الحقيقة.

وعند تتبع المنهج القرآني في الاستدلال على وجود الله تعالى، يتضح أن القرآن الكريم يقدم أسلوباً رفيعاً للنسق المعرفي من حيث البناء الداخلي للدليل ورصانة الروابط الاستدلالية بين أجزائه حيث لا يقتصر على تقديم أدلة منفصلة، بل يبنى على أسس متكاملة من الحجج من شأنها تحقيق أعلى درجات الاتساق المنطقي والاستدلالي والحسي.

ومما لا شك فيه أن النظام المعرفي يجب أن يكون خالياً من التناقضات العقلية، وهذا يتجلى في المنهج القرآني عند الاستدلال على وجود الله تعالى، حيث يستخدم القرآن أسلوب الإلزام العقلي بنفي الشركاء المتشاكسين لإقناع الإنسان بالضرورة الوجودية للخالق حيث يقول: ﴿أم خُلِقوا من غير شيء أم هم الخالقون﴾ (الطور: 35). وقد طرح القرآن الكريم في هذه الآية احتمالين يظهر من خلالهما بجلاء تناقض فكرة الخلق العشوائي من شأنه إقناع القارئ على الإيمان بوجود خالق حكيم.

ومما لا شك فيه أن قوة النسق المعرفي تزداد قوة عند زيادة الترابط الاحتمالي بين مكوناته. ومن هذا المنطلق نرى أن القرآن الكريم يذكر لنا إشارات متكررة من خلال انسجام الكون وتماسكه؛ مما يجعل فرضية وجود خالق مبدع أعلى احتمالاً من بدائل العدم، وفيه قوله -سبحانه وتعالى-: ﴿إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب﴾ (آل عمران: 190). فالقرآن الكريم لا يعرض الأدلة الدينية بطريقة منفصلة، بل يربط بين آيات الآفاق والأنفس والفطرة والوحي في نسق معرفي متكامل، فيقول: ﴿وفي أنفسكم أفلا تبصرون﴾ (الذاريات: 21). فالربط الاستدلال العميق بين الأدلة تقوي البناء المعرفي حيث يجعل كل عنصر من عناصر الإيمان داعماً للعناصر الأخرى لتتحقق بذلك درجة عالية من التماسك بين الأدلة.

وبما أن عدم الانسجام بين مرجعيات يضعف قوة النظام المعرفي، فعلى هذا الأساس يتجنب القرآن الكريم هذا الانقسام، ويحقق توحيداً عميقاً في المرجعيات من خلال وحدة المرجعية والوجود والحياة والأخلاق حيث تعود كلها إلى إرادة الله -سبحانه وتعالى.

إن وجود قضايا غير مفسرة يضعف مصداقية نظرية المعرفة أياً كانت، وتفادياً لذلك نجد أن القرآن الكريم يعالج بأسلوب دقيق جميع القضايا الوجودية من حقيقة الإنسان ومصيره بعد هذه الحياة وغيرها من القضايا المصيرية، حيث يقول: ﴿سنريهم آياتنا في الآفاق، وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق﴾ (فصلت: 53). وبذلك لا يترك القرآن الكريم شذوذات معرفية بدون معالجة، بل يعرض تفسيرات متكاملة تقضي على الأوهام والشكوك في ذهن الإنسان.

وفي ضوء هذه الأمثلة يتبين لنا بوضوح أن القرآن الكريم يؤسس نسقاً عقدياً خالياً من التناقضات والشذوذات ومتكامل العناصر، ويقدم للعقل الإنساني نظاماً معرفياً راسخاً وقادراً على الصمود أمام الشكوك الفلسفية المعاصرة.
June 04, 2025 / 11:35 AM

مواضيع ذات صلة

أخبار ذات صلة

Rotate For an optimal experience, please
rotate your device to portrait mode.