بعض المفاهيم السائدة تتناول موضوع التراث وكأنه عودةُ للماضي، أو استذكار لمراحل معينة من تاريخ الشعوب كانت فيها علاقة الإنسان بمحيطه مباشرة، لا تتوسطها الآلات أو التقنيات الحديثة، حيث يبتكر أدواته بيديه العاريتين أو بالاستعانة بوسائل بسيطة ومتاحة، ويعبر عن مشاعره ومناسباته بأشكال تقليدية من الفنون المختلفة.
والحقيقة أن هذا المفهوم عن التراث، وبرغم جماليته، لا يساعد في فهمه أو تبيان علاقته بالحاضر، وبالتالي علاقته بالهوية والثقافة الخاصة بكل مجتمع.
إن التراث هو نتاج يومي ومتواصل للثقافة الجمعية، فغالبية ما تنتجه الشعوب من أدوات وفنون وأفكار وآداب وحكايات مروية، يصبح تراثها وإرثها وبصمتها على صفحات التاريخ، لهذا يمكن القول إن التراث هو تجسيد وتخليد للثقافة العامة في استمراريتها وحركتها، ويكاد يكون هو الشكل الوحيد الذي تحفظ به الشعوب ثقافتها من الضياع، وبواسطته نفهم المتغيرات التي طرأت على الشعوب وكيف تأثرت بالثقافات والحضارات المختلفة للشعوب الأخرى.
ومن خلال التراث أيضاً، نستدل على أنماط الحياة المختلفة للمجتمعات التي سادت في مراحل معينة، مثل أنماط الزراعة والصناعة والعلوم، وأنماط التفكير والممارسات اليومية والتقاليد والعادات، وهو ما يجعل التراث مدخلاً هاماً ورئيسياً لفهم الهوية الخاصة لكل شعب، ولاستيعاب الاختلافات والتنوعات والجذور المتداخلة للبشرية التي تشكل الهوية الجميلة والمتكاملة للإنسانية.
هكذا نفهم التراث بشقيه المادي واللاّمادي، وهكذا ننظر لمشروع الشارقة الثقافي بكل تجلياته وفعالياته، ومنها "أيام الشارقة التراثية 18" التي يحتضن فيها قلب الشارقة تراث 29 بلداً من مختلف القارات، والذي تشرفت بالمشاركة فيه، حيث رافقت سفير جمهورية "مونتينيغرو" (الجبل الأسود)، ضيف شرف الحدث، خلال جولته بين الأجنحة وأقسام البلدان المشاركة.
ما شعرت به خلال الجولة بين أجنحة التراث الثري والمتنوع في قلب الشارقة، يؤكد سبب اهتمامنا في "دائرة العلاقات الحكومية في الشارقة" بقضية التراث في سياق التواصل مع المجتمعات الأخرى، ويفسر أيضاً سبب رغبة زوّار أي دولة في التعرف على تراثه، ووضع زيارة المتاحف والمراكز والأسواق الشعبية على رأس أجندة جولاتهم. إنهم بذلك وكأنهم أمام كتاب مفتوح ومجسد يروي تفاصيل حياة البلد المضيف بماضيها وحاضرها ومستقبلها أيضاً.
متابعة التراث عملية تعلم مستمر، فهو رسالة هامة في التاريخ تشير إلى أن التشابه الكبير في تراث الشعوب والمجتمعات، والتقاطع في بعض أنماط العيش والعمل والتعبير الوجداني والإبداعي، لا يؤكد فقط عمق العلاقات بين الثقافات المختلفة، بل أن هذه العلاقات قامت على أساس الاحترام المتبادل للعادات والتقاليد والانفتاح على التعلم من الآخر والاستفادة من تجربته.
وهو كذلك رسالة قوية لأجيال الحاضر تحمل في مضامينها دعوة للعمل والانتماء وتفهم الجذور والعلاقات الاجتماعية واستيعاب التنوع والاختلاف وتعزيز قيم الاحترام المتبادل بين الشعوب، لأن التراث بما يمثله من فهم للذات، ينسف بالمقابل كافة الجذور التي تأسست عليها أفكار الانغلاق والتعصب، ويبرهن أن جذورنا واحدة مهما اختلفت الفروع.
والتراث أيضاً رسالة ملهمة لأجيال المستقبل تطالبهم بحماية المكتسبات وتحقيق المزيد منها، وتبرهن لهم حقيقة أن الهوية التي تستدعي الفخر، هي تلك التي تعرف بما ينتجه أصحابها من خيرات مادية ومعنوية يصل تأثيرها للعالم أجمع.
التراث صفات الأمم وعناوينها، وهي عناوين ليست ثابتة بل متطورة، في كل يوم يضاف إليها معنىً جديد، لهذا فنحن نرى احتفاء إمارة الشارقة بتراث العالم هو في الحقيقة احتفاء بالجذور الطيبة للبشرية وتذكير بكل ما هو جميل فيها، وتعبير عن احترام الجهد الذي قدمته الشعوب من أجل أن نكون كما نحن الآن، وبصيغة أخرى إنه احتفاء الشارقة بالتاريخ والحاضر، واستعداد للمستقبل في الوقت ذاته.