جار التحميل...

°C,

اكتساب الأجور بإطعام الجيران من الطيور

December 08, 2022 / 9:52 AM
ولدت ونشأت في بيئة ريفية زراعية مليئة بالحقول الخضراء والأشجار المثمرة، أمضيت فيها ما يزيد على العقود الأربعة ، وكان لي فيها جيران من الطيور ، يعيشون في بستاننا؛ حيث يقع بيتنا، عيشة مدلّلة، يأكلون ما لذّ وطاب من أنواع الثمار المختلفة، والحشرات المنتشرة في ثنايا الأعشاب الخضراء، فلا تحتاج إلى ضيافتنا؛ من حيث تقديم الطعام أو الحبوب إليها، إذا نظرت إليها وجدتها سمينة، تعيش حياتها الطبيعية، تصول وتجول خلال النهار في فضاء رحب، متوكّلة على ربّها ، وباحثة عن رزقها، ومجدّة في أداء وظيفتها ، بإعمار أعشاشها، والاهتمام بصغارها في موسم تكاثرها.
وعندما يحين المساء تنشد نشيدها، وتأوي إلى مبيتها، في شجرات الحَوْرِ الباسقات، وهي آمنة مطمئنة في سربها، شاكرة ربّها سبحانه؛ بما حباها من رغائد العيش، ومعافاة البدن، وحالها يذكرك بحديث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم " لو أنَّكم كنتُم توَكلونَ علَى اللهِ حقَّ توَكلِه؛ لَرُزِقْتُم كما يُرْزَقُ الطَّيرُ، تغدو خماصًا، وتروحُ بطانًا " "رواه الترمذي، وقال حديث صحيح". 

ويذكرك أيضًا بفضل بما يكون للمزارع من ثواب عندما يستثمر أرضه بغرس الأشجار للثمار وزرع البقوليات والخضراوات كي تكون غذاءً للمخلوقات، فيأكل منها إنسان أو طير أو حيوان، وكلّها مندرجة ضمن إطعام ذوات الأكباد الرّطبة، التي فيها عظيم الثواب، ينالها العبد يوم الحساب، وفي ذلك يقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: " ما مِن مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ منه طَيْرٌ، أوْ إنْسانٌ، أوْ بَهِيمَةٌ، إلَّا كانَ له به صَدَقَةٌ "رواه البخاري.

وكم كان يصيبني الحزن إذا صنعنا طعامًا فوق حاجتنا، وتعَافّ النفس من أكله بمرور مدة من الزمن، فيؤول به الحال لأن يكون نزيل النفايات، وقد أنفقنا في سبيل الحصول عليه وفي سبيل تحضيره المال والجهد والأوقات، فهل يعقل أن يصير إلى ما صار إليه، وهو موردٌ خلقه الله سبحانه وتعالى للاستفادة منه، لا لإلقائه في النفايات، ولو أنّ طيورنا كانت تعيش في بيئة لا يتوفّر فيها أسباب العيش من طبيعة خضراء؛ بثمارها الذكية، وزروعها المتنوعة، وحشراتها الحيوية، لحلّت مكاننا في التغذّي بما فاض من طعامنا. 

ويسير بنا الزمن، ويقدّر الله سبحانه، أن ننتقل للعيش في بلدة طيّبة آمنة مطمئنّة؛ طقسها فيه من الشدّة ما فيه ؛ بارتفاع درجة حرارته في أغلب الأوقات، وتربتها الرمليّة الخالية من مقوّمات الحياة الزراعية إلّا ما ندر ، حيث أصبح لنا  من الطيور  جيران؛ ليس فيها من السمنة إلّا ما ندر، وليس فيها من السرور إلا ما عَبَر، يظهر عقب شبعها عند  إيجاد الطعام  لوقت يسير ثم يزول،  إذا سمعت زقزقتها  فكأنها تعبّر عن الأنين، وإذا نظرت إلى وجهها فليس فيه إلا الكآبة إلى حين، وكأنها متعففة لا تسألك شيئًا، وإذا شاهدت طَيَرَانَها فهي مجاهدة في البحث عن رزقها، بعد أن توكلت على ربها ، فهي تغدو خماصًا، وقد لا ترجع بطانًا. 

وبعد أن كان الفائض من الطعام سببًا لحزني الشديد في بيئتي السابقة، زال ذلك - الحزن -  بزوال سببه في بيئتي الجديدة مع جيراننا الجدد من الطيور؛ لأنه – الفائض - يكون من نصيبهم، على مائدة جعلناها لهم، لا تشهد إلا صراخهم عند حضورها، حيث يدفع قوّيّهم المستأثر ضعيفهم العاجز، لينال القدر الأكبر منها؛ فإن ترك الأقوياء منها شيئًا أكله الضعفاء، وإلا فلا. 

وذكرت ما ذكرت - فيما تقدّم - لأشير إلى أنّ مخلوقات الله كافّة أممٌ أمثالُنا، تحتاج إلى من يتكفّلها، ويعتني بتأمين قُوتِهَا، خصوصًا إذا كانت ظروف بيئتها لا تساعدها على ذلك بنفسها، وهذا كلّه يسهم في المحافظة على التنمية المستدامة، ليس بين البشر بعضهم مع بعض، بل بين البشر وغيرهم من مخلوقات كثيرة خلقها الله سبحانه وتعالى، لتسهم بأداء وظيفتها في المحافظة على عملية تنمية البيئة بشكل مستدام.

وإذا كان الإنسان الغني مطالبًا بكفالة الإنسان الفقير؛ ليتحقق بذلك مبدأ التكافل الاجتماعي بين طبقات المجتمع، فإن المجتمع البشري مطالب أيضًا بالإسهام في تكفّل المجتمعات الأخرى من مخلوقات الله سبحانه وتعالى من الطيور ونحوها، حيث نبهنا القرآن الكريم إلى ذلك بقوله: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ٣٨﴾ [الأنعام: 38].

هذا كلّه يدرج ضمن المبادئ المهمة من مبادئ ديننا الحنيف؛ التي ذكر أحدها الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ اشتَدَّ عليه العَطَشُ، فوَجَدَ بِئْرًا، فنزل فيها فَشَرِبَ، ثم خَرَجَ؛ فإذا كَلْبٌ يَلْهَثُ، يأكل الثَّرَى مِنَ العَطَشِ، فقال الرجلُ: لقد بَلَغَ هذا الكَلْبَ مِنَ العَطَشِ مِثْلَ الذِي كان قَدْ بَلَغَ مِنِّي، فنَزَلَ البِئْرَ، فَمَلَأَ خُفَّهُ، ثم أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، فَسَقَى الكَلْبَ، فشَكَرَ اللهُ له، فَغَفَرَ لهُ ، وقالوا: يا رسول الله وإنَّ لَنَا في البَهَائِمِ أَجْرًا ؟ فقال: نعم، في كُلِّ ذات كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» رواه البخاري.
December 08, 2022 / 9:52 AM

مواضيع ذات صلة

أخبار ذات صلة

Rotate For an optimal experience, please
rotate your device to portrait mode.